فين عيونك يا حنان

لصديقتي ضحكة بلهاء … هي تعرف ذلك ولا تغضب، تتسع هذه الضحكة و يعلو صوتها عندما أخبرها أنني لم يكن لدي أي شك عندما كنا في الجامعة في أنها تعاني من خلل عقلي، و إلا فكيف يمكن يمكن تفسير هذه “اللهوجة” التي تجعلها تلقي بالتحية، أو تسأل سؤالا عميقا ثم تجري و تتبخر من أمامك قبل أن تفتح فمك لتبدأ بالرد!

“خطواتها السريعة تشبه ثورة صغيرة” هكذا وصفتها صديقتنا ناهد صلاح، رغم أنها لم تكن معنا في الجامعة، و لم تشاهدها وهي تختفي ولا نعرف أين ذهبت، ثم تعود ومعها مجلات و مقالات كتبتها وتحقيقات تعمل عليها، ولا تثبت في الأرض بعد أن تلقي كلامها بسرعة لا نفهمها، كان لخطواتها السريعة هذا الوقع الذي لا يتناسب مع جسدها الصغير.

أكتر واحدة فينا معجونة بالصحافة … كنت أقول لصديق مشترك وأنا أرى كتاباتها في الإصدار الأول لجريدة الدستور التي كانت تماما على مقاس حنان و تشبهها … مجنونة و متمردة.

كانت حنان تتحدث في السياسة وتهتف في مظاهرات أصدقائها الناصريين، بينما كنا نشاهد نشرة التاسعة ونقرأ الأهرام ونشارك في مسابقات تحتفي بالخطابات التاريخية للرئيس بما يليق بأولاد طبقة متوسطة تشقى لتعلم أبنائها ولا تنسى أن تلقنهم أن يسيروا جنب الحيط.

في المرات القليلة التي كانت “تستهدئ فيها بالله “وتجلس لتحكي، كانت تحكي عن والدها الذي علمها أن تضع قبل أن تنام قائمة بما ستقوم به في اليوم التالي، لكن ذلك لا يعني كما قد يظن البعض أنها كانت منظمة، فلم يكن أي يوم كافيا لتنجز حنان ما تحلم به أو تخطط له.

كنا نسمع عن بعض في السنوات التالية، نحتفي بالانجازات الصغيرة وأخبار النجاح، قصص الحب و الزواج و انجاب الأطفال.

كان اسمها يلمع في تجارب صحفية مهمة يدين لها الكثير من الموهوبين في جيلنا بالنجاح، لكن كما نعلم في بلدنا اذا كنت موهوبا إلى درجة المغامرة فكثيرا ما ستجد نفسك في عرض الطريق.

الغربة كانت قدرا عليها و عليِ، الفرص في بلدنا محجوزة لأصحاب النصيب والواسطة!

محادثة عابرة أو تعليق على صورة منحنا أياها فضاء الانترنت الذي استعنا به على غربة و نجاح كان علينا أن نسعى له في بلاد الناس.

فالوطن يسرف في الثقة في محبتنا فيقسو علينا، يعرف أننا مضروبون بعشق لا شفاء منه , فيتجاهلنا وهو يعرف أننا لا نملك إلا دموعنا وأرواحنا وقوت أولادنا، وأننا سنضعها كلها أمامه مهما أوصد الباب في وجهنا، بينما يسرف في تدليل المؤلفة قلوبهم والمؤلفة جيوبهم ومتوسطي الموهبة ومتوسطي موائد الكبار.

تبكيني حنان ولا تبكي وهي تخبرني بكل بساطة أنها جمعت أولادها وطلبت منهم أن يودعوا والدهم، فهو ذاهب إلى مصر وربما لا يعود، وأنها تحسبه شهيدا من أجل مصر.

كان القلق على بلدنا يقتلنا، نتهاتف كل يوم ونتلمس الأخبار التي لا تظهر في نشرات الأخبار، نتبادل القصص و نستعين بالأمل، كان يفترض بزوجها أحمد نصر أن يكون شهيدا من الذين سالت دموعنا وارتفعت رؤسنا ونحن نشاهد اللواء الفنجري يؤدي لهم التحية.

سافر أحمد نصر رجل أحلامها، ووالد أبنائها، ورفيق غربتها ولم يستشهد، لكنه أيضا لم يعد، ففي لحظة مجنونة تشبهه وتشبهها وتشبه أحلامنا، قرر أن بلده تحتاج إليه وأنه سيبقى مغامرا بشقى العمر، والوظيفة، ورزق العيال، وطاوعته صديقتي ليطحن القدر أحلامهما في نهاية كانت تشبه النبؤة، فلا يموت أحمد ولا يبقى حيا تماما كأحلامنا.

و تجد حنان نفسها بلا وظيفة بلا نقود ومسئولة عن زوج ميت حي و ثلاثة أبناء.

عندما أصيبت حنان بالسرطان كانت مرعوبة مثلنا، لكنها لم تتخل عن ضحكتها البلهاء، فقلنا لأنفسنا إن السرطان لا يعرف حنان.

تجمع صغارها الذين كبرتهم الحوادث … حمزة ونور وسارة .. يكتسي وجه حمزة بصرامة تتجاوز سنوات عمره القليلة، ولا تخفي سارة ونور دموعهما، تخبرهم حنان أن السرطان ليس إلا خلايا صغيرة مجنونة، وأنها لن تسمح لهذه الخلايا أن تأخذها منهم، تخفي رعبها خشية أن يفقدوا ما تبقى من احساس بالأمان.

تسافر حنان مرة أخرى بعد أن يبكى أمامها أصدقاؤها، فالوطن يعرف أن حنان تحبه، وأن الكثيرين مثلها، لكنه لا يبادلها ذات الحب، فتعرف ونعرف أن العلاج باهظ التكلفة وأن الموت أرخص بكثير، تسافر حنان إلى مكان تعرف و نعرف أنه لا يشبهها و أنها لا تنتمي له.

ثم إن حنان شتامة، سليطة اللسان، تقول ما تريده بأقذع العبارات ثم تضحك، أعاتبها، فتقول لي انها حرفوشة، نعم حنان حرفوشة، لكن الحرافيش يعيشون في الروايات، والمسلسلات فقط، أما الوطن فهو يحب الأفندية ولا يتسامح مع زلات اللسان حتى لو كانت من فرط المحبة، ويفضل اللسان الحلو المتملق حتى لو كان يخفي قلبا جبانا.

لو كان الأمر بالشجاعة كان لابد أن تنتصر حنان، لكن التاريخ علمنا أن أنبل المعارك تغير الخيانات مصيرها، وحنان تحارب العدو الأخبث والأكثر غدرا، فكلما اقتربت من الأمل وظنت أنها سترتاح قليلا، عاد ليضربها على غفلة!

بعد ساعات قليلة تركب صديقتي الطائرة و تسلم أمرها لله كما تعودت في رحلة أبعد وفي بلد غريب، وحيدة تماما، فقروشها التي يعلم الله كيف اجتمعت لا تتحمل الرفيق، لكن صديقتي اعتادت أن ترافق الأمل وأن تسير وراء العلامات … ففي قلب صديقتي الشعنونة سليطة اللسان درويشة تعرف أن “الله يدللها في ملكوته” رغم المحن.

تعرفين يا صديقتي أن دموعي قريبة، وأنت متأكدة أنها تسيل وأنا أكتب الآن عنك، لكنك تعرفين أيضا أنك أسرع من يحولها إلى ضحكات وأنت تسخرين من صديقتك الساذجة مازالت منذ أيام الجامعة.

(إعلام.اورج)

 

التعليقات