جعفر بناهى.. ولا يزال التهديد بالانتحار هو الحل!

مثلما وصل بفيلمه (3 وجوه) إلى مهرجان (كان) السينمائى، برغم الحصار المفروض عليه من عقول لا تزال تنتمى لزمن المصادرة والمنع، استطاع أيضا أن يصل للجمهور فى العالم كله، من الواضح أن الحكم القضائى الصادر ضده عام 2009 ويمنعه من ممارسة مهنة الإخراج على مدى عشرين عاما قد سقط، والدليل أنه صور آخر فيلمين له فى شوارع إيران، أى تحت عين الدولة، إلا أنه يقينا ممنوع من مغادرة البلاد، جعفر لا يعرف أبا الاستسلام، فى بداية تنفيذ الحكم الجائر أخرج فيلما عُرض رسميا عام 2012 فى (كان) خارج التسابق، عنوانه (هذا ليس فيلما)، تناول فيه بيته وطقوسه اليومية وعلاقته بالجيران، وكأنها سينما الحقيقة.

هذه المرة تمكن أيضا برشاقة إبداعية من أن يمنح فكرته المغرقة فى محليتها لتتسع الدائرة لتشمل العالم الثالث كله الذى يجمعه التناقض بين الأقوال والأفعال، بقدر ما ينبهر الناس بالنجم ويطلبون التقاط (سيلفى) معه، إلا أنهم يمتلئون بكراهية لمهنة الفن برمته والتمثيل ينال القسط  الأوفر من استهجانهم.

الانتحار واحدة من المفردات التى تُقدمها السينما الإيرانية بمحاذير عديدة، وفى العادة وطبقا للحواجز الرقابية لا يمكن أن تُزهق الروح، السينما الإيرانية تحكمها قواعد دينية وأخلاقية تحول دون الوصول للذروة، الرقابة الصارمة تخلط الأمر بين ما هو دينى ودرامى، راجع مثلا المخرج الراحل عباس كيروستامى الذى قدم قبل 21 عاما فيلمه (طعم الكرز) الحائز على سعفة (كان)، الفنان الإيرانى فى نهاية الأمر لا يجد بأسا فى أن يجعل القيد نافذة للتحرر والرؤية الأكثر عمقا وشمولا.

 

هذه المرة النقطة الساخنة التى التقطها جعفر بناهى، والتى بدأ منها السيناريو الذى شارك أيضا فى كتابته، أن الممثلة الشهيرة بيهناز جعفرى تتلقى رسالة مصورة بالمحمول من فتاة تطلب مساعدتها لكى تتمكن من تحقيق رغبتها فى التمثيل ودراسة الفن فى العاصمة طهران، فتاة فى مرحلة المراهقة تعشق التمثيل، وأهلها يحولون دون سفرها خارج البلدة التى يقيمون فيها على الحدود بعيدا عن العاصمة، إنها حكاية كما ترى نعيشها فى المجتمع العربى وفى العالم الثالث بكل تفاصيلها، بيهناز فى البداية لا تأخذ أمر الانتحار بالجدية المطلوبة ويصل الشريط الذى صورته الفتاة لجعفر بناهى الذى يقرر إنقاذها بعد أن صورت نفسها بالمحمول وكأنها فعلا انتحرت.

استطاع المخرج أن يضع المشاهد فى لحظة فارقة وساخنة وهى ترقبه للذروة الأخيرة التى يتساءل فيها: هل حقا انتحرت أم أنه مجرد لفت انتباه؟.

(3 وجوه) عنوان الفيلم، إنها الوجوه التى نعيشها جميعا، الأول أنت كما ترى نفسك، والثانى كيف يراك الآخرون، والوجه الثالث هو حقيقتك، بين هذه الرؤى المتعددة وأحيانا المتباينة.

كما أنك من منظور آخر ستجد ثلاثة وجوه للنساء، الأول الفتاة الصغيرة عاشقة فن التمثيل، والثانى الممثلة الشهيرة، والثالث هو أم الفتاة.

رحلة استكشافية لنجمة شهيرة ومخرج صار نجما فى إيران ويحظى بحب وجماهيرية طاغية، تدعم موقفه العديد من الجوائز فى كُبرى المهرجانات (برلين) و(فينسيا) و(كان).

الفيلم يقع فى إطار (سينما الطريق) ولم يلجأ لتعدد الأماكن والشخصيات بقدر ما التقط لمحات منها تعمق الرؤية. أهل القرية الكرماء فى حبهم للمشاهير رغم نظرتهم المتحفظة والمتحفزة للفن، المساحات الشاسعة التى تمنحها القرية على مدى البصر، استخدمها المخرج للتعبير كثيرا عن الضعف وقلة الحيلة التى يعيشها بطلا الفيلم فى مواجهة القيم التى ترتدى عادة غطاءً حديديا صارما.

الشريط كسر حاجز الحدود بين الروائى والتسجيلى، فهو (سيمى دراما) مثل فيلمه السابق (تاكسى) الحاصل على جائزة (الدب الذهبى)، أفضل فيلم عام 2015 فى مهرجان (برلين)، يمنح بناهى هامشا من التلقائية، الحوار هنا يتركه المخرج وبنسبة كبيرة لأبطاله الذين يقف أغلبهم أمام الكاميرا لأول مرة، من المشاهد التى عبر عنها ببلاغة سينمائية عندما ألمح إلى عيون الغضب موجهة للمخرج تعلو وجه شقيق الفتاة الراغبة فى التمثيل وهو ممسك بحجر، اللقطة الثانية أغلق المخرج زجاج السيارة بإحكام، وجاءت الإجابة فى اللقطة الثالثة فى طريق العودة، خدوشا غائرة على الزجاج الأمامى.

اللقطة الأخيرة الطريق الشاسع يلتهم الجميع، فلا تزال الرؤية الفكرية ضبابية، ولا يزال التهديد بالانتحار و الحل!.

(عن المصري اليوم)

 

التعليقات