(بيرسونا) كم مرة رأيت نفسك على الشاشة بكل هذا الصدق؟!

أغلب فنانى المسرح القدامى فى مصر الذين توجهوا للسينما يرددون تقريبا نفس المقولة التى لا تختلف سوى فى مفرداتها (نعمل فى السينما لكى ننفق على المسرح)، وكأن خشبة المسرح هى ساحة الفن، التى ينبغى أن يضحوا من أجلها بالنفس والنفيس، بينما السينما مجرد نزوة أو مهنة للاسترزاق. على الجانب الآخر للمخرج السويدى انجمار برجمان، تعبير لا يخلو من طرافة وأكثر صدقا وعمقا (السينما عشيقتى والمسرح زوجتى).

برجمان، الذى يبلغ رصيده 50 فيلما، وضعف العدد من المسرحيات، التزم بواجباته الزوجية، وتوقف عن ممارسة خياناته السينمائية فى سنواته الأخيرة.

فى القاعة التى أنشأها وصارت تحمل اسمه وطقوسه فى جزيرة (فارو)، شاهدت العديد من أفلامه، والمدهش فى تلك الرحلة أنك بعد أن تستعيد الصورة على الشاشة تذهب إلى أرض الواقع، أقصد مكان التصوير لتكمل المعايشة.

من بين كل أفلام برجمان، يقف (بيرسونا) متفردا كواحد من أفضل أفلام السينما فى العالم كله. ثنائية العلاقة بين فنانة مسرح وممرضة، تؤدى دور الفنانة الممثلة المفضلة لبرجمان الأرجنتينية ليف أولمان، فهو من هؤلاء المخرجين الذى يعتبرون الممثل هو سلاح المخرج الأول. من أنت؟ إنه السؤال الذى يصاحب الإنسان حتى النهاية، فى كل مرة يسعى للاقتراب من الحقيقة يكتشف أنه يبتعد عنها، كلنا نضع مكياجا يغلف الوجوه، الفارق هو فقط فى الدرجة، ويبقى أن نحصى جميعا عدد الأقنعة التى وضعناها على وجوهنا حتى نزول (تتر) النهاية.

فى مصحة نفسية تنطلق الأحداث بين فنانة تلعب دور (إليكترا) وهى فى الأسطورة الإغريقية، تتآمر على قتل أمها التى كانت قد قتلت أباها، أى أنها تعيش مأساة مزدوجة.

الممثلة صمتت ثلاثة أشهر بإرادتها، ويجب ملاحظة أن اختيار مهنة الممثلة يؤكد عمق الفكرة، القائمة على أن الجميع يمثل أمام وخلف الكاميرا.

الممثلة التى احتار الأطباء فى مرضها اختارت أن تحتمى بالصمت والعلاقة الأساسية فى السيناريو، مع ممرضة منوط بها رعايتها تؤدى دورها بيبى أندرسون، اختار المخرج الجزيرة المنعزلة، التى تنتقل إليها الممرضة مع البطلة فى محاولة لانتزاع الحقيقة، السينما القليلة جدا فى استخدام التقنيات حتى بمقياس زمن الفيلم قبل أكثر من 60 عاما، فهو يضع مساحة التعبير بالإضاءة فى تباينها بين الظل والنور للتأكيد على الانقسام، يصبح الملعب مهيئا ليحدث هذا التزاوج والمزج بين الشخصيتين، يلجأ أحيانا إلى تقسيم الوجه بالإضاءة بين النور والعتمة، أحيانا تتنازع البطلتان نفس الوجه، حتى تتصاعد الرؤية لأنك فى لحظات لا تدرك من هو المريض حقا، وتصل للذروة عندما تكتشف أنك تُطل على وجهك أنت، الديكور فى الحجرة  بسيط جدا، سرير وتليفزيون، ثم يتم التحرر، ليصبح الشاطئ وصخوره وأمواجه هى فقط تفاصيل الصورة.

هل الصمت الجبرى هو المرض، أم أن الكلام هو المأزق النفسى؟ وباستخدام تقنية الأبيض والأسود وشخصيتين رئيسيتين، فيما عدا ظهور خافت لذكريات وأشباح من الماضى، ليس هو بالضرورة ماضى الشخصيات، الذى يكشف جانباً من المكبوت، هناك إطلالة على التاريخ البشرى، ووظف المخرج احتراق الإنسان للتعبير المباشر، إن الجسد هو الذى يفصلنا عن الحقيقة.

الكاميرا تنقض بعدسة (الزووم) لتعتصر تعبير الوجه والعين وتعلى من قيمة الصمت، اللقطات القريبة والقريبة جدا هى وسيلة برجمان، بالإضافة إلى استخدام الحوار وعلى استحياء من طرف واحد، ويترك لك أنت تكمل الجملة.

تحليل النفس البشرية يتصاعد للذروة، حتى باستخدام العنف الجسدى، حيث إننا جميعا نتفحص وجوه البطلتين، من خلال عين المخرج التى منحنا لها تفويضا كجمهور لتصبح هى عيننا.

يدفعك برجمان لكى تنسى هؤلاء الذين تراهم فى (الكادر) لترى نفسك بعيدا عن الزيف، والذى من الممكن أن تجده طبقا لرؤية برجمان يتمثل فى ارتداء أقنعة الملامح واللغة والحركة.

(بيرسونا) هو العنوان الأصدق لبرجمان، إنه الفيلم الذى يخاطب البشر فى كل زمان ومكان، وأيضا فى اللازمان واللامكان!!.

التعليقات