"أبداً لم يكونوا أطفالاً".. الحقيقة تحت نصل السكاكين المسنونة!

نحن أمام امرأة تعمل بمهنة بطبيعتها حكر على الرجال، اختفت تقريبا من الشارع القاهرى الراقى، أتحدث عن (سن السكاكين) التى تحتاج لقوة عضلية لمن يحمل فوق ظهره عدة الشغل، المرأة المُطلقة الرائعة تقاوم الحياة بتلك الجنيهات القليلة التى تحصل عليها مع كل لمعة سكين، يتطاير من حولها الشرر الذى يحدثه تفاعل الاحتكاك، ويظل مثل الطلقات النارية مصوبا زخاته إليها حتى بعد أن تتوقف العجلة عن الدوران!!

للمخرج الموهوب محمود سليمان إطلالة رائعة على الحياة فى مصر- قدمها فى فيلمه التسجيلى الطويل الذى شارك بمهرجان معهد العلم العربى فى باريس- هذه الرؤية قد تصدم بعض من لا يريدون سوى أن نعيش فى كذبة كبيرة، مجتمع لا يزال بعض مثقفيه يرفعون شعار (الفن النظيف)، والذى يرى أن على المبدع الحق أن يؤكد للقاصى والدانى أن الحياة لونها بمبى، مطلوب مننا أن نغض الطرف عن تقديم أى مظاهر للقبح، حتى نُصدر كما يظنون صورة ذهنية لائقة للعالم عن بلدنا، رغم أن الطريق للإصلاح يبدأ فقط من الصدق ورؤية الحقيقة.

(أبدا لم يكونوا أطفالا) منذ أن شاهدته فى مهرجان (دبى) قبل عامين، عندما اقتنص سليمان جائزة المهر الذهبى كأفضل مخرج، كما أن الفيلم حصل على جائزة أفضل (غير روائى).

صار هذا الشريط منذ ولادته فنيا، أحد أهم الأفلام التى تحظى باهتمام المهرجانات، ويدفعك فى كل مرة لمشاهدته مجددا، الفيلم يعامل أحيانا فى الداخل بعين الرهبة والخوف والتوجس.

وهكذا تعيش السينما التسجيلية القهر مضاعفا، أولا لأننا لم نبذل جهدا لائقا لكى نخلق ثقافة التعاطى مع هذا النوع السينمائى، حتى أصبحت كلمة تسجيلى كارتباط شرطى عندما تلصق بعمل فنى تعنى مباشرة النفور الجماهيرى، الثانى هو الخوف من تقديم الحقيقة التى هى روح الفيلم التسجيلى ولو تخلى عنها لانتقل مباشرة لقسم (البروباجندا).

مخرج الفيلم وكاتبه أنفق من عمره أكثر من عشرة أعوام فى تتبع تلك العائلة، أم وأربعة أطفال تركهم أب مدمن، جاء خبر رحيله كأنه يعنى نهاية كابوس. الأم تزوجت وهى طفلة ولم تكمل تعليمها، وهو نفس المصير الدائرى الذى تكرر مع ابنتها، الفقر والقهر والجهل والمرض لا يطرحون عادة نهايات أخرى، الشريحة الاجتماعية التى يقدمها المخرج تفرض واقعها، هو لا يملى إرادته على أحد، ولكن الشخصيات التى لا تملك سوى أحلام مجهضة يبددها الواقع القاتل حتى للخيال.

الأطفال الثلاثة هم أضلاع المأساة القادمة، الكبير يكرر حكاية الأب القاسى ويمارس العنف على شقيقه الثانى، المنحرف جنسيا وهو ما نراه لأول مرة فى الدراما التسجيلية، حرص المخرج على أن يقف محايدا فلم يقدم إدانة مباشرة، فقط سمح له بالنفى، بينما الطفل الأخير ساعدته أمه فى شراء (تُكتك) الذى صار حلم الفقراء فى بلادنا، الابن الأكبر يقول فى حوار تليفونى من فرط يأسه من إصلاح حاله أنه يخشى أن يصبح مصيره هو الالتحاق بداعش.

الشريط يحذر بقوة تصل لحدود القسوة أحيانا، ولكن أيضا يحرص على الامتاع الفكرى والبصرى، من خلال شريط منح الفيلم إطلالة خاصة ومزاجا عاما، قتامة المأساة لا تعنى أبدا أن تختفى تفاصيل المتعة والجمال ولا حتى روح الدعابة، فقط أن تظل التلقائية والطبيعية والانسياب سيد الموقف أمام الكاميرا. ولا تزال السيدة الرائعة تجوب الشوارع المصرية فى الأحياء الشعبية، بينما مصر الثانية تبدو وكأنها لا تدرى شيئا عن تلك المأساة التى تجرى أحداثها فى مصر الأولى التى وثقتها باقتدار عين محمود سليمان!!.

 

التعليقات