روسيا تعاير أوروبا

(1)

يتعامل الفكر السياسى الروسى مع دول أوروبا الخمسين وكأنها دولة واحدة. وإذْ ترى روسيا نفسها موقعاً خاصاً بذاته.. فلا هى دولة أوروبية ولا هى دولة آسيوية.. ولا هى ثقافة شرقية ولا هى ثقافة غربية.. فإنّ دوائر الإعلام والتفكير فيها باتتْ تتحدث عن التميز التاريخى، والتفوق الحضارى لروسيا على الغرب.

وقد تأملتُ كثيراً ما نقله موقع «روسيا اليوم» عن موقع «نيوز إنفو» بشأن التفوق الروسى تاريخياً وحضارياً على أوروبا. وأدركتُ أن الحرب الباردة بين روسيا والغرب لم تعد أسيرة سباق الصواريخ وجحيم الغواصات.. بل إنها باتت تتمدد إلى الحرب على القيم والمبادئ.. على العلم والثقافة.. على الحضارة والتاريخ. لم تعد الحرب الباردة تدور حول هدف واحد: «نحن الأقوى».. حيث تم إضافة هدف جديد: «نحن الأرقى».

(2)

يتحدث الروس عن دوائر عديدة للتفوق الحضارى الروسى: من الطب إلى الصناعة، ومن حقوق الإنسان إلى النظافة، ومن السلاح إلى قائمة الطعام.

حسب الرؤية الروسية.. فإنّ روسيا كانت تخترع الخير بينما كانت أوروبا تبتكر الشر.. فقد اخترعت روسيا «التخدير» خلال العمليات الجراحية (د. بيرجوف).. بينما كانت العمليات الجراحية للجنود الأوروبيين فى حرب القرم 1850 تتمّ من دون تخدير.. ومن روسيا انتقلت عمليات التخدير إلى أوروبا والعالم.

وبينما اخترعت روسيا الجرارات قامت أوروبا بتطويرها إلى دبابات.. ثم اخترعت أوروبا الغازات السامة.. فاخترعت روسيا الأقنعة الواقية من الغازات السامة.. وحين اخترع الغرب القنبلة النووية اخترعت روسيا المحطات النووية السلمية.

حسب الرؤية الروسية أيضاً.. فإن الاختراعات الحضارية الرئيسية مثل الراديو والتليفزيون والمصابيح الكهربائية والمركبات الفضائية والاتصالات اللاسلكية هى كلها اختراعات روسية.. لكن أوروبا قامت بسرقتها.. ونسبتها لعلمائها.

وحسب الرؤية الروسية -كذلك- فإنَّ روسيا التى ألغت الرق قبل أمريكا وأوروبا بعشرات السنين.. كانت أكثر تطوراً من أوروبا فى مجال حقوق الإنسان.. ذلك أن الإعدام حرقاً (على طريقة داعش) كان عقوبة أوروبية سائدة، وقد تم إعدام أكثر من عشرة آلاف إنسان أوروبى بالحرق أحياء.. كما أن بعض دساتير أوروبا فى القرن الثامن عشر كانت ملفوفة بلفائف الجلد البشرى.

وحين زار الأديب الروسى العالمى ليو تولستوى أوروبا متخفياً فى زىّ عامل فقير.. عاد وكتب: «إن التاريخ لم يعرف قسوةً وعنفاً أشد من قسوة الناس على الفقراء فى أوروبا».

(3)

يمتد الاستعراض الروسى بشأن التميز الحضارى إلى معايرة الأوروبيين بعدم النظافة الشخصية.. وأن روسيا هى التى أعادت لأوروبا سرَّ صناعة الصابون.. والذى كانت أوروبا قد فقدته لفترة زمنية طويلة منذ عصر الرومان.. كما أن أوروبا لم تعرف «الحمامات» إلاّ حين قامت روسيا ببنائها فى أوروبا.. سواء فى أثناء زيارة القيصر بطرس الأكبر لأمستردام وباريس.. أو حين حررت روسيا مناطق واسعة فى أوروبا بعد هزيمة نابليون.

ثم يصل الاستعراض الحضارى الروسى على أوروبا إلى «التغذية المقارنة».. وتفوق المطبخ الروسى على المطبخ الأوروبى.. حيث لم يعرف المطبخ الروسى أكل القواقع ولا الضفادع ولا الجبن المعفن.. ولا قصاصات الكعكة (الاسم القديم للبيتزا الإيطالية).. ولكن الغذاء المفيد الغنى كان عنوان المطبخ الروسى.. كالسالمون والكافيار.

(4)

لقد ارتأيت عرض معالم ذلك المقال المهم الذى أعاد نشره موقع «روسيا اليوم» حتى يدرك القارئ الكريم مدى اتساع مساحة الصراع الفكرى بين روسيا والغرب. إنه الصراع الذى بات يتجاوز الحديث عن منظومة الدفاع الجوى إس 400 أو الطائرات المقاتلة سوخوى 57 أو الصاروخ سارامات الذى يصل إلى (20) ضعف سرعة الصوت، ويمكنه تدمير أى هدف على وجه الأرض.. إلى حدِّ المعايرة بدورات المياه وقوائم الطعام.

إنَّ حروب القرن الحادى والعشرين.. رغم تقدمها العلمى المذهل.. لم يعد بمقدورها تجاوز التاريخ والحضارة.. ذلك أن إدارة الحرب النفسية لا تكون بالطائرات والدبابات وحدها.. بل لا يزال هناك سلاح أهم.. لا يمكن الاستغناء عنه.. إنّه «سلاح الثقة».. الثقة فى أن التفوق أمر ممكن اليوم.. لأنه كان كذلك فيما مضى.

الذين يضيئون اللحظة لا يمكنهم الثقة فى بقاء الضوء.. إذا كان تاريخهم غارقاً فى الظلام. القادمون من العدم سيظلّون أسرى الخوف والقلق. وحدهم القادمون من الحياة.. يملكون ما لا يملكه الآخرون: الثقة والأمل.

(الوطن)

التعليقات