إعادة إنتاج الشيطان

يمنح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرصة جديدة لنظام الحكم في طهران لكي يعيدوا إنتاج "الشيطان الأكبر" عن طريق إقناع الشعب الإيراني بالالتفاف حول قيادته، لمواجهة قوى الاستكبار والطغيان والغطرسة.

كان إنتاج "الشيطان الأكبر" أو "الأعظم" يجري بينما يقتحم الطلاب الإيرانيون مقر السفارة الأمريكية في طهران عام 1979،عقب الإطاحة بحكم الشاه، للتنديد بقرار واشنطن استضافته للعلاج، مطالبين بتسليمه لإيران لمحاكمته.

واحتل الطلاب مقر السفارة الأمريكية في طهران واحتجزوا الدبلوماسيين الأمريكيين بداخله، وعددهم 52، كرهائن لمدة 444 يومًا، بينما فشلت في العام التالي عملية "مخلب النسر" لتحريرهم التي أمر بها، ثم ألغاها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بسبب عواصف رملية ومفاجآت غير متوقعة لنجوم قوات دلتا الشهيرة، وألغيت العملية بعد ساعتين من التخبط في الصحراء، وقال آية الله الخميني في خطاب شهير: إن الله قد أنعم على الحكومة الإسلامية بمعجزة العاصفة الرملية.

والخميني نفسه هو من وصف السفارة الأمريكية في طهران بأنها عش الجواسيس، وكانت إيران وبسبب من الضغوط الأمريكية على قلب رجل واحد، وتم توقيع "اتفاق الجزائر" ليلة مغادرة كارتر البيت الأبيض، وتم تسليمهم في يوم نهاية خدمته، بينما يضع رونالد ريجان قدمه اليمني على عتبة البيت الأبيض.. بعد ذلك بأكثر من خمسة عشر عامًا، كان الفيلم الإيراني "عاصفة الرمال" ثم أغنية حامد زماني "الغناء مع العاصفة".

ظل الشد والجذب بين واشنطن وطهران طوال الوقت، يدعمه الخلاف العقائدي وتغذيه أزمات طهران مع حلفاء واشنطن خصوصًا إسرائيل، ولكن لا أحد يستبعد تورط واشنطن في مساندة من نوع ما للعراق في حربها ضد إيران، حتى عاد الخميني إلي معزوفاته الفلسفية ليقول إنه يتجرع السم الزعاف ويقبل وقف إطلاق النار مع العراق.

أما تسخين الخليج "الثائر" بطبعه ولما يحتويه باطنه من ثروات، فكان هدفًا أمريكيًا بامتياز، ولا يستبعد كثيرون تورط واشنطن في دفع بغداد إلي احتلال الكويت للدخول في حرب خليجية ثانية كانت هذه المرة قاسية، وكم كانت مكلفة!.

وانكسر صدام.. ولم يعد في نية أحد حل النزاع مع إسرائيل عسكريًا سوى إيران، برغم أن الجميع يعرف أن هذا الأمر لن يحدث مطلقًا.. لكنها أحلام الشعوب اليائسة.. وعلي هذا النحو أيضًا تثير إسرائيل الحساسيات بزعم تهديد أمنها، وتحاول الولايات المتحدة أن تبدو كأنها تصدق أن إيران يمكن أن تهاجم إسرائيل لتحرير فلسطين.

هكذا مضي الأمر.. ودخلت المنطقة في خطة أمريكية لشرق أوسط جديد ليس فيه نظام صدام حسين، فتم غزو العراق، ولا لسلاح نووي إيراني، فزاد ضغط العقوبات.

لكن العالم استرد أنفاسه مع توقيع اتفاق نووي للدول الغربية وأمريكا مع إيران (5+1) .. وقال الرئيس روحاني إنه أعظم انتصار دبلوماسي في تاريخ الإسلام. ومع هذا التطور الذي أزاح سيناريوهات الحرب ضد إيران، أمريكية أو عن طريق الوسيط الإسرائيلي، بدأ الإيرانيون يتحركون في الداخل.. بدأت مطالبات بحقوقهم وحرياتهم.. لكن الولايات المتحدة لم تمرر المسألة، وإنما تفاجئ العالم بإلغاء الاتفاق النووي، وتشديد العقوبات، ومحاولة الوصول بالنفط المصدر من إيران إلى صفر تصدير.

ألا يعيد هذا النمط "الترامبي" من التفكير إيران إلي التفكير بدورها أو الشعور بالنشوة؛ لأنه يعيد لها فرص إنتاج "الشيطان الأعظم" الذي يريد خنق وتدمير إيران ليلتف الشعب حول قيادته.. أليست هذه فرصة رائعة لإسكات الصوت الداخلي في إيران.. ثم إن ترامب مهما تفوق في لغة الخطاب لن يكون شيئًا بجوار بلد الفلاسفة والشعراء وكبار المتصوفة.. فقد رد قادة ايران بكل الكلمات الموجعة والمتخمة برحلة التاريخ وعمق الحضارة وأشبعوه سبابًا وتهديدًا لدرجة أن ترامب ما عاد يزعجه سوى التهديد اللفظي الذي يتلقاه من طهران عندما يستيقظ من النوم.

إن ترامب عندما يستيقظ يكون قد مر النهار بطوله ومالت الشمس إلى المغيب على طهران وضواحيها، ويكون قد لُعن ملايين المرات، ويكون في الوقت ذاته قد وحد الأمة الإيرانية.

إن ترامب لا يفعل شيئًا وهو مشهور بالتراجع كتاجر في وكالة البلح يضرب السعر في اثنين أو في ثلاثة، ثم يقبل بأقل من نصف السعر الذي حدده حتى لا يغادر الزبون، ولم يدر أنها أيضًا ثقافة إيرانية بامتياز، ومشهورة في العالم بثقافة البازار. لن يباريهم فيها.

كل ما تحقق للولايات المتحدة من هيمنة في المنطقة وفي العالم أمور لا تكفي ترامب، حتى إنه الآن يطالب بالثمن، وبلاده أخذته طوال العقود الماضية سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، هو يتبجح أمام صديقه ماكرون في البيت الأبيض أخيرًا، ويقول في مؤتمر صحفي إنه يطالب دول الشرق الأوسط بـ 7 تريليونات دولار؛ صرفتها بلاده هنا على مدار 18 عامًا، و"لم نحصل على شيء في المقابل؛ بل أقل من لا شيء".

ويقول: تحدثنا إليهم، وهم دول غنية للغاية وسيدفعون ثمن ذلك.. وبخلاف ذلك سيكون لديك إيران تصل مباشرة للمتوسط.. ويضيف بكل حزن وأسي: "وحينما نريد إعادة إعمار بنيتنا التحتية، سيادة الرئيس يقول الجميع إنه ينبغي أن يحذروا في صرف أموالهم".

صحيح أن كثيرًا من دول المنطقة تعاني من إيران وتدخلاتها في الشأن العربي، ولكن ضرب إيران شيء آخر.. وأظن أن ترامب لن يفعلها؛ لأنه في النهاية يريد الاستفادة القصوى من أي مشاجرة عالمية عن طريق بث الرعب، وظن الآخرين في جنون تصرفاته.

** عن الأهرام 

التعليقات