مبادرات الإصلاح والتغيير

ربما يكون أخطر ما عانت منه مصر في السنوات الأخيرة هى إضاعتها فرصة بناء مسار إصلاحي عقب ثورة يناير، وأسوأ خيار يمكن أن تتجه له مصر هو إضاعتها مرة أخرى لفرصة بناء مسار إصلاحي جديد.

معادلة الإصلاح يجب أن تكون شرطًا مسبقًا قبل أي تغير وإذا ضاعت بوصلة الإصلاح فلا معني لأي تغيير ولا مردود له وربما سيؤدي لنتائج عكسية إذا كان تغيير النظم لصالح الفراغ والفوضى كما جري في أكثر من تجربة عربية، وكانت النتيجة أسوأ من النظم القديمة. لقد غاب عن كثيرين عقب ثورة يناير أن البلاد تحتاج لبناء منظومة جديدة لا الانتقام أو عزل رموز المنظومة القديمة طالما لم تدينهم المحاكم، فالقضية لم تكن في إحلال نخبة ثورية (لم توجد في الحقيقة) محل نخبة مبارك ولا إحلال نخبة الإخوان محل الاثنين ولا نخبة ثالثة محل الجميع إنما في بناء منظومة جديدة تحل مكان منظومة الفشل القديمة، وتعتمد على أجزاء من النظام القديم جسرًا ينقل البلاد من القديم إلى الجديد.

معادلة الإصلاح والتغيير في المجتمعات النامية معادلة صعبة، لأن عادة تحكمها متضادات كثيرة لأن كثيرًا من المطالبين بالإصلاح يعتبرون أنه من المستحيل تحقيقه دون مشاركة كل الشعب، وهناك من يقول ضمنًا أو صراحة أن الشعب جاهل وغير قادر على القيام بمبادرات الإصلاح والتغيير فدعونا نيابة عنه نقوم بذلك.

ومع ذلك لم يستطع أي نظام أو أي مبادرة للتغيير أن تتجاهل الشعب فهو صاحب المصلحة مهما كانت سوء أوضاعه التعليمية والاقتصادية، حتى جاء عصر إقصاء الشعب في نهاية حكم مبارك بعد أن تحول مشروع التوريث إلى خطة عملية  تجري في جنح الظلام واعتبرت شلة التوريث نفسها وصية على الشعب ولم تحسب حسابه، وزورت انتخابات 2010 بلا حياء ولا حدود.

جرح الشعب المصري في كرامته حين تم اقصاؤه من أي حساب ولذا لم تكن ثورة يناير التي أسقطت حكم مبارك ومشروع التوريث مجرد حراك شعبي وانتفاضة للناس في الشوارع إنما كانت رد اعتبار للشعب الذي لم يقبل قطاع واسع (حي ونبيل) أن يظل مهانا ومهمشا وخارج كل حسابات السلطة.

عاد الشعب بعد يناير رقمًا في حسابات الجميع وانتقل من حالة الشعب الخام الذي ثار جزء منه على النظام الحاكم إلى مرحلة التجسيد الاجتماعي والسياسي للشعب أي إلى مجتمع ونخب وأحزاب وتيارات سياسية.

إن جوهر رسالة يناير في حكم الشعب بنفسه، اعتبرها قطاع آخر من الشعب بالتحالف مع مؤسسات الدولة العميقة إنه "بئس الاختيار" وإن حصيلة حكم الشعب عقب ثورة يناير كانت سلبية على الوطن والدولة فكان لا بد من العودة عن حكم الشعب، والتوقف عن أي شراكه بين الشعب والدولة واحتكار الأخيرة لأي تصور أو رؤية للإصلاح.

إن الانقسام بين القوى السياسية وعجزها الكامل على التوافق على أي مشروع سياسي يجعل أي مبادرة خيالية لتسليم السلطة مرة أخرى للأحزاب المدنية والقوى السياسية (التي صارت أكثر ضعفا مما كنت علية عقب ثورة يناير) خارج اهتمام الشعب، الذي اعتبر قطاع واسع منه إنها فشلت عقب ثورة يناير وكانت الطرف الأضعف في ترتيبات 3 يوليو، وبالتالي كيف يمكن أن تسلم السلطة لها بشكل أحادي وانتقالي؟ وفي نفس الوقت لم ير الشعب أن هذه الأحزاب والقوى السياسية قدمت أي "أمارة" تقول إنها غيرت من خطابها أو راجعت أخطاءها أو استطاعت أن تنتزع مساحات لها في الشارع المنصرف تمامًا على الاهتمام بالسياسة ولا تعنيه كثيرا شئون الحكم والسلطة إنما لقمة عيشه وهمومه الاقتصادية اليومية.

لقد سبق للسفير معصوم مرزوق أن انتقد هذه النخبة بشدة في مقال سابق حمل عنوان "الإخوة الأعداء" طرح فيه كيف رفض شباب الثورة والقوى السياسية مبادرته لتوحيد صفوف المعارضة، وكيف أن هناك من شتمها لأنها لم تضمن عودة مرسي للحكم، وهناك من رفضها لأنها لم تشتم الجيش وهناك من اتهمها أنها تفتح الباب لعودة الإخوان، وعاد الآن وأصبح مطلوبا من هذه النخبة أن تحكم بديلا عن الدولة وأجهزتها ودون حتى أي طرح للشراكة معها.

هل يمكن أن يثق أغلب الناس في قوى سياسية تدير خلافتها بهذه الطريقة وهى خارج السلطة؟ وألا يمثل هذا الواقع (بعيدًا عمن المسئول) مبرر أساسي لأي نظام حاكم لكي يقول ومعه جزء من الشعب أن هؤلاء غير مهيئين للحكم وأن أفضل أن تحكم أجهزة الدولة نيابة عن الجميع؟

مبادرات اليوم هي تكرار لنفس أخطاء الأمس مع فارق وحيد أنها بلا روح ولا زخم شعبي وهي تذكرنا بما جري عقب ثورة يناير حين تصور البعض أنه يمكن أن يبني بديلا سياسيًا دون مشاركة تيارات ورموز إصلاحية ومهنية كانت موجودة داخل دولة ونظام مبارك ورفضت مشروع التوريث وانفتحت في نفس الوقت على جانب من مطالب ثورة يناير.

من حق الجميع أن يقدم أي مبادرة مهما كانت طبيعتها طالما لا تحرض على العنف والتخريب إنما علينا أن نتعلم من دروس الماضي وأن نقرأ واقعنا كما هو فالنخبة السياسية والمدنية ليست ضعيفة لعيوب "جينات" إنما نتيجة واقع سياسي واجتماعي محيط بها، والدولة ليست قوية ومسيطره لأنها تضم عباقرة وجهابذة العصر (بل ربما تكون مأزومة أكثر من المجتمع السياسي) إنما لأن في يدها أدوات القوة والقهر، والشارع أصبحت له أولوياته المختلفة عن النخبة والحكم معا وتعبيره عن سخطه يجري خارج القنوات السياسية المغلقة.

معادلة الإصلاح والتغيير المطلوبة هى في جسر بين القديم والجديد، والبداية هى في بناء دولة قانون ووقف المظالم وحكم عادل وشفاف كخطوة على طريق للديمقراطية وحكم الشعب.

** عن مصراوي 

التعليقات