حلقة الإعلام المفرغة

يعاني الإعلام المصري من أزمة غير مسبوقة تجاوزت مشاكله المتعلقة بالقيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير، أو بضعف مهنيته، أو بمشاكله الفنية والمالية ونمط الملكية، لتصل إلى أزمة وجود تهدد كيانه في ظل غياب أي معايير واضحة توجه حركته، وتسمح له بالبقاء حتى لو كانت هذه المعايير مجرد قيود (واضحة) على عمله.

والمؤكد أن كل النظم السياسية تهتم بالإعلام، ولكن النظم الشمولية تعمل دائما على ترويضه أو ترهيبه في حين أن النظم الديمقراطية أو التي ترغب في أن تكون ديمقراطية، تضع له قواعد مهنية تضبط عمله، وتحرره في نفس الوقت من القيود السياسية والأمنية، وهو لا يعنى أنه لا يتعرض في أحيان كثيرة لمحاولات الترويض أو التوجيه بتأثير جماعات الضغط والمصالح حتى في النظم الديمقراطية، إلا أن القواعد المهنية المنظمة لعمله تعد بمثابة الضامن الأكبر الذي يحول دون تبعيته لسطوة المال وسلطة الحكم.

والحقيقة أن النظم السياسية في مصر حرصت دائما على ترويض الإعلام وعلى نزع استقلاليته ووضعت له خطوطا حمراء كثيرة وأممته في فترة عبدالناصر وجعلته تقريبا تابعا للتنظيم السياسي الأوحد في ذلك الوقت أي الاتحاد الاشتراكي، وسمح الرئيس السادات لبضع سنوات بتعددية صحفية مقيدة تراجع عنها في أعوامه الأخيرة، في حين ترك مبارك هامشا للإعلام الخاص سواء بالنسبة للصحف أو الفضائيات الخاصة دون أن تغيب الدولة عن رسم خطوطه الحمراء.

ولقد كان من المتوقع أن يتحسن حال الإعلام عقب ثورة يناير ولكنه تخبط وشهد حالة من الفوضى والانحياز السياسي الفج، وحاول الإخوان السيطرة عليه وترويضه لحسابهم وفشلوا فشلا ذريعا، واختار أغلب الصحفيين والإعلاميين الوقوف ضد سلطة الإخوان عن قناعه حتى تم إسقاط حكمهم.

والحقيقة أن صيغة الخطوط الحمراء أو القيود الواضحة على الإعلام التي عرفتها نظم غير ديمقراطية كثيرة ولكنها أنجزت في مجال التنمية والعدالة الاجتماعية (مصر في الستينيات التجربة الصينية وكوبا وغيرها) بدت غائبة حاليا نتيجة عدم وجود رؤية واضحة حول ماذا يريد النظام السياسي من الإعلام: إعلاما مؤيدا أم مستقلا؟، وإذا كانت الإجابة المتوقعة هي المؤيد فإن معايير اختيار الإعلاميين والبرامج وإدارة الصحف والقنوات يجب أن يكون فيها بعض المهنية (من يعرف في ماذا؟) حتى لو صاحبها كثير من القيود، لكن بالتأكيد لا يمكن أن تكون فقط عشوائية وهوائية.

وقد توقع المتشائمون أن تستمر صيغة الإعلام المؤيد والخطوط الحمراء، مع تعميق ما يمس المؤسسة العسكرية والأمنية والقضائية وكافة المؤسسات السيادية على اعتبار أن الدولة كانت مستهدفة أثناء حكم الإخوان، وفي نفس الوقت لعبت دورا كبيرا في إسقاط حكمهم، فيجب التشدد في أي أخبار تتعلق بمؤسساتها، ويؤجل الرهان على الإعلام المهني المستقل.

والحقيقة أن ما جري لم يتوقعه المتشائمون والمتفائلون، والمؤيدون والمعارضون، فقد شهد الإعلام في السنوات الأخيرة درجة غير مسبوقة من التخبط وانتقل الحال من وجود رؤية تحدد القيود المفروضة عليه وتترك له مساحة للحركة إلي تقييمات قائمة على العلاقات الشخصية، وعداوات متسرعة بسبب وشاية أو تقرير، وحتى الإعلاميين المؤيدين نالوا "من الحب جانبا" وحوسبوا على السهو والخطأ البشري، وأحيانا على التجويد في التأييد، وحتى كبار الكتاب المعروفين بنزاهتهم وقيمتهم الفكرية والصحفية (مثل عبدالله السناوي وغيره) لم يسلموا من سباب وحملات تحريض رغم أنهم كانوا وما زالوا من الأمناء الحقيقيين على المشروع الوطني للدولة المصرية حتى لو اختلفوا في كل أو بعض السياسات المتبعة، وباتت جملة في خبر أو كلمة في مقال أو اتصال تليفوني من مواطن يمكن أن تثير أزمة كبرى مع صحيفة أو برنامج تليفزيوني حتى لو كانت ملتزمة بكل الخطوط الحمراء المعروفة في داخل الإعلام وخارجه.

لم يفهم كثيرون لماذا لم نبدأ في إصلاح ماسبيرو وتطوير الإعلام الرسمي ونقله بشكل حقيقي من إعلام الحكومة إلى إعلام الدولة؟، ولم يفهم كثيرون أيضا لماذا تسرعت الدولة في إنشاء قنوات جديدة وشراء أخرى دون أي دراسة جدوى حقيقية، وأسباب انصراف قطاع واسع من الناس نحو فضائيات خارج الحدود، أو ترديدهم شائعات وكلاما فارغا تباري في ترويجه على مواقع التواصل الاجتماعي مؤيدون ومعارضون.

نعم تحتاج الدولة والقيادة السياسية إلى استطلاعات رأي عام نزيهة تكون لها نسب مشاهدة كل الفضائيات الخاصة والحكومية وهل الحل في إلغاء برامج "التوك شو"، وكأننا بذلك سندفع الناس إلي عدم الاهتمام بالسياسة، أم أن السياسة وأخبار البلد ستظل من سنن الحياة، وأن المنع يؤدي للبحث خارج الحدود وخارج كل ما هو مفروض على الناس.
إن خطورة أي وضع عشوائي تحكمه الأهواء والمصالح الشخصية في إنه يحول أزمة الإعلام من قضية حرية رأي وإعطاء مساحة للآراء المعارضة والنقدية إلي قضية هدم كامل لصناعة جرى تسميتها بالسلطة الرابعة، وأن تجارب البلاد الديمقراطية وغير الديمقراطية حكمتها دائما "قاعدة ما" في تنظيم الإعلام رحبة ومهنية في الأولى، ومقيدة في الثانية، أما إعلام الهوى والتخبط فهو بالتأكيد أكبر خطر على النظام السياسي من الإعلام الذي يصفه بالمعادي.
المراجعة والإصلاح الجراحي مطلوبان اليوم قبل الغد.

** عن مصراوي

 

التعليقات