فطرة التحرش والتدين

اعتقدت للوهلة الأولى أن ردود الفعل تلك ناجمة عن حساسات وهمية، الغرض منها تكدير السلم العام وإثارة البلبلة ونشر الشعور بعدم الأمان.

خبر الرجل المنحور لأنه اعترض على تحرش أحدهم بزوجته دفع البعض ممن يعيشون بيننا إلى اتهام الزوج المقتول بأنه "ديوث" (آه والله)، ووصفه بـ"اللطخ" لأنه اصطحب زوجته إلى شاطئ مختلط، وأنه يستاهل ما جرى له، وكان عليهما أن يتوجها إلى مكان مخصص للعوائل (نعم عوائل).

ومنهم من أشار إلى أن الزوجة هي المخطئة لأنها ترتدي ملابس غير محترمة (المايوه الذي يسمونه بالشرعي وهو أشبه ببدل الغطس التي لا يظهر منها إلا وجه مرتديها)، ذهب لحد القول بأن الزوجة في الأغلب غوت المتحرش!

وبعملية بحث سريعة على المعلقين، يتضح إنهم ناس بحق وحقيقي. والمصيبة أن أغلبهم شباب وشابات، منهم من يعرف نفسه بأن مهنته "حب الله ورسوله (ص)" في مؤسسة "لا إله إلا الله محمدا رسول الله". ومنهم من ينتهج نهج لحية الأستاذ الفنان الأسطورة محمد رمضان، ومنهم من يضيف تعريفًا لنفسه بأنه "شهيد تحت الطلب". ولا تخلو المسألة من توليفة دينية عجيبة، حيث دعاء على غير المسلمين، وتضرع من أجل الموت أثناء الجهاد، والبقية معروفة.

وقد قطعت كل الشكوك بيقين ما قاله لي سائق التاكسي معلقًا على الحادث بقوله: "طبيعي يحصل كده وأكتر من كده. الستات اليومين دول مالهمش كبير. إيه اللي وداها البحر أصلاً؟ ما تستنى في بيتها لما جوزها وعيالها يرجعوا تجهزلهم حلة مكرونة  بدل المسخرة".

ولا تتوقف حدود المسخرة عند حد بعينه، بل تستمر، وتتوغل وتتغول في مصرنا الحبيبة. فمن ردود الفعل على الفتاة التي صورت المتحرش "الظريف" وجيوش الذكور الذين ألقوا اللوم على الضحية "لأن ملابسها غير محترمة" و"لأن أكيد واقفة في الشارع علشان يتم التحرش بها" و"المؤكد أنها تبحث عن الشهرة"، ناهيك من جحافل الإناث المصريات اللاتي غيبهن خطاب ديني يدفع بمصر نحو الهاوية، وقضى على كرامتهن عبر تكتيك إشعارها بالذنب المزمن وتخويفها من عذاب القبر وتصوير أنوثتها، باعتبارها فضيحة شنعاء وأناقتها وكأنها ذنب غير مغفور ونظافتها وكأنها دعوة للفتنة والزنى، وبالطبع التحرش.

التحرش بات منظومة شديدة الالتصاق بذكور مصر المتدينة بالفطرة، التي لا تخلو حارة فيها من بضعة مساجد وزوايا، التي نبذت "صباح الخير" من أجل عيون "السلام عليكم" وأنكرت "شكرًا" لصالح "جزاك الله خيرًا" ونفت "من فضلك" انتصارًا لـ"الله يكرمك".

والمتحرش في مصر يحظى بتضامن المجتمع ومحبته ودفاعه الشديد، إن لم يكن بالفعل والقول، بالقلب والعقل، فهو إما مسكين فقد عقله أمام إغواء النساء، أو غلبان لا يقوى على الزواج، وإن كان متزوجًا، فهو على الأرجح ضحية نكد الزوجة وقرفها، وإن كان متزوجًا زوجتين فهو حتمًا لم يجد من تحنو عليه، وإن كان جدًا فهو ضحية هرمونات ضائعة، وإن كان مراهقًا فسنة الحرجة تتطلب أن تختبئ كل النساء في داخل الخيام أو تحت أسقف بيوتهن، احترامًا لهرموناته المتفجرة، وإن كان طفلاً، فهو "ما شاء الله تبارك الله أصبح رجلاً".

وبين حوادث التحرش الفجة التي نتابعها، وتلك "العادية" التي نعيشها على مدار الـ24 ساعة في الشارع والعمل والمواصلات وأحيانًا في داخل البيوت، وردود فعل المجتمع المتضامنة مع المتحرش شكلاً وموضوعًا، وموقف الكثيرات من نساء وفتيات مصر والمتراوحة بين لوم النفس أو اعتبار التحرش سنة من سنن الحياة أو الاستعانة بالمزيد من طبقات القماش، يمكن القول وبكل ثقة إن قلة التربية وأحيانًا انعدامها تحولت من ظاهرة إلى أسلوب حياة، وأن شيزوفرانيا التدين الفطري والتحرش الفطري طفحت على السطح، وأن نوعية الخطاب الديني على مدار الـ30 سنة الماضية أسهمت بقدر كبير جدًا في تحقير المرأة وحبسها في بوتقة الجنس والمتعة والدونية (وهو ما لاقى رواجًا وإقبالاً منقطع النظير من كثيرين وكثيرات)، وأن دور المدرسة في التربية والتنشئة تبخر في هواء "سناتر" الدروس الخصوصية، وأن القانون في غيبوبة اختيارية.

 

التعليقات