في ليلة طولها اثنا عشر عامًا

لم تكن الدموع التي ذرفت في القاعة الممتلئة من أجل موخيتا ورفاقه فقط، ولا التصفيق الذي امتد لدقائق مع نزول كلمة النهاية ومعها النص المكتوب الذي يوضح مصائر أبطال الفيلم الذين عاش معهم مشاهدوه أكثر من ساعتين.

"من المؤسف أننا لم نقتلكم حين كان ذلك باستطاعتنا.. لكننا سندفعكم للجنون، بدلا من ذلك".. كانت هذه هي العبارة التي لفظها الجنرال في نشوة انتصاره على الثوار الذين اضطر للقبض عليهم، ولم يقم بتصفيتهم مع رفاقهم.. كل الأمور كانت تسير على ما يرام من وجهة نظر الجنرالات الذين انتصروا على الثوار الحالمين من منظمة توبا ماروس اليسارية التي قادت نضالًا مسلحًا، انتهى بهزيمتها على يد الجنرالات الذين أسسوا حكمًا عسكريًا ديكتاتوريًا في الأرجواي في عام 1973.

 

ولمَ لا؟ فقد بدا أنهم نجحوا تمامًا في إجهاض أي حلم بالتغيير وبالغوا في التنكيل بكل من بقي من فلول الثوار.
 
"هل تعتقدون أنكم قادرون على هزيمة النظام؟!.. العالم مليء بالمثاليين والحمقى والجحيم مفروشة بالنوايا الطيبة، وهذه هي جحيمكم".
 
كانت جحيما بالفعل؛ فبطريقة ما جعلك المخرج الأرجواني، ألفارو بريشنز، تشعر أن الغطاء الموضوع على رأس أبطاله الثلاثة ليمنعهم من رؤية سجّانيهم أو من أن يتسرب ضوء الشمس إلى عيونهم طوال الطريق من سجن لآخر- موضوعٌ على عينيك، وأن تشعر أن السقف المنخفض للزنزانة الانفرادية ينطبق على رأسك، وكذلك ارتفاع سقف البرج الذين حبسوا في زنزانات متفرقة في قبوه، يلقى إليهم فتات الطعام المختلط بالقذارة والحشرات من فتحة سقفه..
 
تشعر بقليل من الارتياح عندما تبدو الزنزانة أوسع من سابقتها لكل منهم، ثم لا تلبث أن تسقط في هوة اليأس عندما يأتي السجان، ويرسم مربعًا لا يسمح لهم بتجاوزه.
 
"هل تظنون أنكم سجناء ولكم حقوق؟ كلا أنتم هنا رهائن، ولن تخرجوا أبدًا".
بطريقة ما يخترع اثنان من الثلاثة طريقة للتواصل، عبر الجدران المصمتة للزنزانة الانفرادية، من خلال الدق على الجدار، بعدما منعوا من تبادل الكلام مع أي أحد بمن فيهم السجانون، ولأن الجنود الذين يتولون الحراسة هم أيضا بشر يشتركون مع السجناء في أحلامهم تبدأ خيوط العلاقة الإنسانية.. والمفارقة أن ما ينسجها في كل هذه الجحيم من الكراهية هو الحب!
 
يسمع السجين الشاعر من بين الثلاثة أحد الجنود الذين يسلّون ليلهم الطويل في الحراسة بالثرثرة، وهو يحكي عن الفتاة التي طيّرت النوم من عينيه، ولا تبادله الهوى، فيعرض عليه أن يليّن قلبها بخطاب يكون فيه الشاعر لسانًا لقلب الجندي ويفلح، فيستدعيه قائد السجن لأمر مماثل .
 
"أرجوك ارفع الغطاء عن عيني لحظة واحدة لأرى شعاع الشمس".. يتوسل السجين في لحظة توقف عابرة يقضي فيها السجناء حاجتهم في الطريق الطويل من سجن لآخر حتى لا يهتدى ذووهم لمكانهم، وفي اللحظة التي يرق فيها قلب السجان، وتشرب عين السجين ضوء الشمس على مهل تشعر أن ثمة أملًا يولد في الأفق.
 
"قاوم مهما حدث.. لا تدعهم يدفعوك إلى الجنون.. لا تستسلم.. قاوم.. لا أحد قادر على انتزاع ما بداخلك".
تصرخ أمّ موخيتا في وجهه، بعد أن نجحت في الوصول إلى محبسه في لحظة بدا للنظام أنه استتب تمامًا ولا خطر.. ويتساءل موخيتا في لحظة يفقد فيها اليقين إن كان ثمة إله يشاهد ما يتعرضون له صامتا، ورغم أن الإجابة تأخرت اثني عشر عاما، فقد جاءت في اللحظة التي لم يتوقعها أحد؛ فقد نظم الحكم العسكري استفتاءً على بقائه، وسط أجواء تعبئة نعرفها تماما في العالم الثالث، حتى إن الأغنية التي نشاهدها على شاشة تليفزيون السجن كانت كلماتها تقول: "قل نعم من أجل استقرار الأرجواي".
 
وجاءت نتيجة الاستفتاء "لا" على غير توقع لتتغير الظروف ويخرج الرفاق لينخرطوا في العمل السياسي في واحدة من أنضج تجارب تحول الثوار إلى العمل السياسي ليصل أحدهم وهو خوسيه موخيتا إلى منصب رئيس الجهورية بالانتخاب، ويحكم بين 2010 و2015 في تجربة ملهمة حصدت شعبية تكاد تصل إلى الأسطورة حول الرئيس الفقير الذي يعيش حياة متقشفة، ويفتح أبواب قصره للمشردين.
 
عندما فتح باب السجن لينطلق المساجينُ السياسيون إلى الخارج تأخر أحد الرفاق مستكملا ما يقوم به من غسل أواني الطعام.. صرخ عليه الضابط ليخرج: ألا تريد الخروج؟ ماذا تفعل؟ ومن أجل من؟ ليجيب بكلمة واحدة: من أجل القادمين.
 
هي بالفعل ليلة طولها اثنا عشر عامًا، ستشعر بوطأتها كاملة في ساعتين، هما مدة الفيلم الذي فاز بجائزة مهرجان القاهرة السينمائي، لكنك ستشعر أيضا في نهايته أن الليل سينقضي مهما طال.

(مصراوي)

التعليقات