وصف مصر بالجريمة

لا تستطيع أن تفهم مجتمعا من دون أن تعرف نوعية الجرائم التي تحدث فيه. هذه هي الرسالة التي يحملها كتاب نبيل عمر الصادر مؤخرا بعنوان "وصف مصر بالجريمة: ماذا حدث في قاع المجتمع خلال ربع قرن؟". "قد تكون الجريمة هي أصدق مرآة يرى فيها أي مجتمع نفسه" هكذا كتب نبيل عمر، لأن "الجريمة هي الابن غير الشرعي للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة".
الجريمة هي نتيجة للثغرات ومواطن الفشل في المجتمع، وهي تعبير عن الثقوب التي يسقط منها الناس إلى القاع، وهناك يبيعون روحهم للشيطان. كلما زادت واتسعت الثغرات والثقوب في تنظيمات المجتمع وثقافته ومؤسساته وقوانينه، كلما سقط عدد أكبر من الناس إلى القاع. وكلما بعدت المؤسسات والقوانين عن الطبقات والثقافة والقيم كلما أصبح القاع أكثر بعدا وعمقا، وكلما أصبح الساقطون فيه أكثر جرأة وفجاجة، وكلما تسببت جرائمهم في صدمات أكثر شدة لمن يعتبرون أنفسهم الأسوياء من الناس، بسبب ما تمثله من جرح للمشاعر والمزاعم الأخلاقية السائدة بين الناس، وتلك التي يحاولون ترويجها عن أنفسهم.
يتوقف نبيل عمر في هذا الكتاب عند بعض من أشهر الجرائم التي هزت المجتمع المصري، يستنطقها ويحللها من وجهات نظر علوم الجريمة والاجتماع والنفس، ويطبق عليها منهجا أنثروبولوجيا يلاحظ بدقة، باحثا عن التفاصيل التي لم يهتم بها أحد. تبدأ الرحلة التي يأخذنا نبيل عمر إليها من جريمة فتاة العتبة التي وقعت عام 1992، وصولا إلى جرائم وقعت زمن الانفلات الكبير الذي شهدته البلاد في أعقاب انهيار الشرطة يوم الثامن والعشرين من يناير عام 2011.
لا يتورط نبيل عمر في إصدار أحكام أخلاقية على أحد، حتى المجرمين، فلكل ظاهرة، حتى الجريمة، سبب موضوعي نجده في الاقتصاد وبنية الطبقات الاجتماعية ومؤسسات الدولة، وإذا لم نجد في كل ذلك تفسيرا ففي علم النفس ما يكمل النقص. يلتزم نبيل عمر بهذا المنهج دون أن يصل إلى حالة من العدمية الأخلاقية تجعل الفرد مجرد انعكاس غير واع لما تفعله فيه أبنية المجتمع والدولة، فتعفي الفرد من المسئولية عن أعماله. فالمجتمع وأهل الحل والعقد فيه مسئولون عن الظروف التي تشجع الجريمة وتسهلها، والفرد مسئول عما يقع فيه من سقطات، حتى لو كان المجتمع قد دفعه إلى طريق الانحراف وسهله له.
في الجريمة انحراف عن قيم وأخلاق المجتمع، هذا أكيد. لكن قيم المجتمع وأخلاقه ليست ساكنة جامدة لا تتغير، فأشياء كثيرة مما رفضها المجتمع واعتبرها انحرافا في الماضي عاد وقبل بها في وقت لاحق. ستظل السرقة والقتل والاغتصاب جرائم طوال الوقت، ولن يتغير الموقف الأخلاقي منها أبدا. لكن ماذا عن العلاقات بين الرجال والنساء، وما يجري بينهم من أمور يقررون الدخول فيها بإرادتهم، وفقا لأشكال مستحدثة من الزواج والعلاقات، وما ينتج عنها من أبناء لم يختاروا وضع أنفسهم في هذا الموقف. تناول نبيل عمر في كتابه عددا من هذه الحوادث، وخاصة تلك الحالات التي دار فيها صراع قضائي حول نسب أطفال لفنانين مشهورين. تعامل نبيل عمر مع هذه الحالات بميزان دقيق وازن بين قيم المجتمع الراسخة، والتغيرات التي تطرأ عليها، وحقوق أطفال ولدوا في خضم نزاع قضائي على الشيء الوحيد الذي يحق لأي طفل أن يولد وهو مطمئن له ومتأكد منه، أقصد الأبوة والأمومة.
لا يذهب نبيل عمر إلى القول بأن الجريمة هي مرآة المجتمع، وأنك تستطيع أن تعرف المجتمع إذا عرفت الجرائم التي يرتكبها أهله، لكنه يؤكد أن فهم المجتمع لا يكتمل إلا بملاحظة ودراسة الجرائم التي يتورط فيها أبنائه. إنه كتاب ممتاز وضروري لكل من يريد فهما أفضل ونقاشا أعمق لمجتمعنا وما يجري فيه.

 

التعليقات