خيط الإصلاح

باتت متابعة نقاشات أعضاء المجموعات العنكبوتية أشبه بامتحان يوم عسير، الداخل فيه مقتول، والخارج منه دون أمراض الضغط والسكري والقلب "مولود"!

والمسألة لم تعد مجرد هري سياسي وهري سياسي آخر، أو إفتاء اقتصادي وهزل مالي، أو حتى تبادل وجهات النظر عما إذا كان فستان رانيا يوسف أولى بالنقاش من القضية الفلسطينية، أم أن القضية ما زالت حية ترزق، وتستحق النقاش والسجال.

تحول التجوال العنكبوتي إلى سلسلة يومية من فخفخينا اللامعقول وخلطبيطة الصدمات والخبطات التي لا يكشف بعضها فقط عن عصبيةٍ أقربَ ما تكون إلى القبلية فقط، ولكنها تعري العديد من مواطن البؤس الفكري، التي لا تظهر عادة في النقاشات الفعلية.

قبل أيام، كتبت إحداهن على إحدى هذه الصفحات على "فيسبوك" والتي تجمع سكان منطقة ما أنها تعرضت لتحرش جسدي من قِبل أحدهم في المصعد، واتخذت إجراءات رسمية في هذا الصدد، وحذرت السيدات والفتيات من تكرار ما تعرضت له، خصوصًا أن المتحرش موظف في هذه المنطقة.

فجّر البوست تعليقاتٍ فاقت التحرش نفسه قبحًا، ونضحت بكمٍ هائلٍ من العنف الفكري والعنصرية المرعبة؛ فبين مُلْحة أن المُتحرَّش بها حتمًا كانت ترتدي ما دعا المتحرش إلى التحرش بها داعية إياها إلى الهداية، وآخر مدافع عن الضحية بكل سماحة وسماجة مدونًا: حتى لو كانت سافرة لا يجب أن يتم التحرش بها، وثالث مشير إلى أن أغلب النساء والفتيات اللاتي يجاهرن بما لا ينبغي المجاهرة به مشكوك في سلوكهن، وينبغي عدم تصديق ما يقلن إلا بعد سماع الطرف الآخر.. جالت التعليقات المكتوبة من قبل الجيران في دوائر مخيفة مقيتة.

في البداية، ظننت أن البعد عن متابعة مثل هذه المجموعات وما تحتويه من سموم فكرية وفيروسات اجتماعية- هو الطريق الأمثل لتجنب الصداع والوقاية من ارتفاع ضغط الدم. لكن -كما قالت الست "أهرب من قلبي أروح على فين؟"- الهروب لا يجدي، والعزلة لا تفيد على المدى الطويل.

واستمرار تجاهل ما ضرب رؤوسنا، وسمم عقولنا وقلوبنا أكثر من ذلك إنما يؤدي إلى مزيد من التسمم، فأجيالٌ بأكملها خرجت إلى الحياة وهي تعتقد أن التحرش بالسافرة واجب، وإلقاء لوم التحرش على المتحرَّش بها إلزامي، واعتبار التحرش مسؤولية المتحرش بها تدينًا والتزامًا وحفاظًا على المجتمع المتدين بالفطرة الملتزم بالثقافة.

ثقافتنا "المصرية" تستنجد بنا، وتديُّننا الأصلي يتبرأ من تديننا، بل إن منطقنا العقلاني يحتاج أحيانًا إلى مراجعة وتنقيح. اليوم تبدو الآمال المعلقة على تجديد أو تنقيح أو تنقية أو مراجعة الخطاب الديني ضئيلة جدًا. صحيح أن الفرحة الأولية بدعوة الرئيس السيسي قبل ثلاث سنوات لتجديد الخطاب الديني جعلت البعض- وأنا منهم- يعتقد أن الخطاب سيجري تجديده في خلال أيام، وسنستيقظ، ذات صباح، لنجد مصر عادت لرشدها، لكن قليلاً من التعقل يعني أن ما أفسدته جماعات الإسلام السياسي واستيراد الأفكار الثقافية ذات الهالات الدينية على مدى عقود لا تصلحه الآمال والأمنيات.

جانب لا يستهان به من آمال الإصلاح وأمنيات التصويب معقودة على النساء والفتيات. لماذا؟ لأنهن الأكثر تسديدًا لفاتورة الانغلاق الديني. ولأنهن الأكثر تعرضًا لسخافات المتدينين الجدد ممن يحللون التحرش، ويبررون العنف ويحقرون النساء بناء على ما لقنه إياهم مشايخ التطرف والتشدد.

التشدد في التعبير عن التوجهات والأيديولوجيات على أثير الشبكة العنكبوتية على صفحات فيسبوك ومجموعات "واتس آب" وغيرهما- ليس متصنعًا أو متكلفًا.

وهذه هي المصيبة الكاشفة! هؤلاء يعبرون تعبيرًا أمينًا صادقًا عما يجول في قلوبهم وعقولهم من معتقدات وأفكار، وعلى أحدهم التقاط طرف الخيط لمعرفة كيف نبدأ الإصلاح.

(مصراوي)

التعليقات