الرؤوس المُسْتهلَكة

لا يوجد ما ينافس الأخبار المتفجرة والأحداث المتواترة فى كل من ليبيا والجزائر والسودان هذه الآونة فى الخطورة والإثارة سوى التدوينات الزاعقة والآراء المفخخة والـ«لايكات» والـ«شير»، التى تدق على الرؤوس دون هوادة.

رؤوسنا التى نستهلكها فى موجات تنظير قصوى تكاد تنفجر فى وجوه الجميع. هذا الكم الهائل من تفسير وتحليل الأحداث فى الدول المجاورة أمر كان يمكن أن يمر مرور الكرام، لولا أن المسألة تعدَّت التنظير المبنى على مشاهدات تليفزيونية وتحولت إلى اتهامات للآخرين بالغباء والجهل. تحليلات عجيبة وآراء أعجب. دعوات للمعتصمين السودانيين بالبقاء فى الشوارع، تأكيد بأن الرئيس السودانى السابق عمر البشير تعرض لمؤامرة، تلميحات بأنه جزء من المؤامرة، إشادات مُبالَغ فيها باقتلاع «رئيسين» سودانيين فى 48 ساعة، وغيرها من التنظيرات التى ما أنزل الله بها من سلطان تدق رؤوسنا وتدكها.

سلطان التنظير لم يعد مقصورًا على الانغماس فى شؤوننا اليومية. ولم يعد يقتصر على الإدلاء بالرأى والرأى الآخر فى قرارات وسياسات دائمًا نرى أنها غير صائبة. ولم يعد منحصرًا فى إعادة تدوير آراء الآخرين وكأنها معلومات لا ريب فيها. متابعة المكتوب والمتداول هذه الآونة تشير إلى أننا حققنا نقلة نوعية، وذلك عبر تحليل سياسات إقليمية وتوقع تطورات مستقبلية أغلبها يرتكز على متابعات ليلية لما يرد فى الشاشات التليفزيونية من أخبار عاجلة يعقبها ما تيسر من تحليلات من هذا الصحفى ذى الرأى المُسيَّس، أو تلك الجمعية ذات التوجه المؤدلج، أو ما شابه.

وعلى الرغم من أهمية فهم وتحليل ما يحدث حولنا من مجريات بالغة الخطورة، إلا أن بناء قصور تحليلية فى الهواء، وربطها بأوضاع وأحداث داخلية لتبدو وكأنها أمر واقع، يفوقها خطورة. المُلاحَظ أن ردود الفعل المصرية سرعان ما تفجرت تحليلًا.

البعض ابتهج وفرح لمجرد سقوط نظام طالما عادى رغبة المصريين واختيارهم التخلص من حكم الجماعة. والبعض الآخر ابتأس واكتأب لأن ورقة جديدة من أوراق الإسلام السياسى قد سقطت. فريق ثالث رأى أن الوضع أكثر خطورة من أن يطلق العنان لتنظيراته، ويفتح المجال أمام اجتهاداته الفكرية ليتم تعميمها، فاحتكم للعقل.

وبحسبة بسيطة، فإن تدفق تدوينات «فيسبوك» وتغريدات «تويتر» ومحتوى مجموعات «واتس آب» وغيرها مع كل مناسبة يحتاج مراجعة ذاتية لأثر المكتوب. لم يترك سكان الشبكة حدثًا أو خبرًا أو حتى خبرًا كاذبًا إلا حلَّلوه ولوَّنوه ونثروه فى محيطهم: تابلت الصف الأول الثانوى، تصاعد الاقتتال فى ليبيا، تنقية بطاقات التموين، سقوط ضحايا فى مواجهات فى الجزائر، إعلان جدول امتحانات سنوات النقل، استمرار اعتصام مواطنين فى السودان، وغيرها كثير. بِتْنا خبراء فى كل شىء، ومحللين لأى شىء، فصارت رؤوسنا مُسْتهلَكة.

التعليقات