سيدة العشق

هل قرأت "قواعد العشق الأربعون"؟.. السؤال طرحه المثقفون المصريون على بعضهم، قبل سبع أو ثماني سنوات، كان هذا تقريبًا الترويج الذي جرى للرواية الصادرة سنة 2010، ليجعلها أيقونة المجالس.. فيما بدا نطق اسم المؤلفة "إليف شافاق" محيًرا حتى ثبت بالتأكيد على اللسان.. وعندما قرأ المثقفون المصريون الرواية التي ترجمها خالد الجبيلي، قُضي الأمر، فهي تستحق عناء القراءة (500 صفحة) وغواية نطق الاسم الذي تحول من الغرابة إلى النعومة، وبدا مألوفًا ويجري تداوله كأمر مسلم به.

 

 
أما الرواية فقد احُتفي بها في العالم، وفي مصر، وحولها مسرح الدولة إلى مسرحية بديعة من إخراج عادل حسان، ولم تتأخر الروائية التركية البارزة، ولا مترجموها عن تقديم أعمال أخرى بدأت تتوالى على مكتبات القاهرة، وبثمن أقل بكثير لدى مزوري الكتب في إشارة الإسعاف، فقرأنا عن طريقهم "لقيطة إسطنبول" و"حليب أسود" و"قصر القمل" و"شرف" و"الفتي المتيم والمعلم".. هذه الروايات في الصف الأول من ركن الروايات في مكتبتي، وهناك أعمال أخرى لم تنضم لصاحباتها.

هذه الكاتبة الرائعة تتعرض الآن لملاحقات ومضايقات من نظام رجب طيب أردوغان في تركيا، ملاحقات بدأت قبل فترة، لكن الضغوط زادت أخيرًا بعد دراما الانقلاب العسكري الفاشل، الذي رأى فيه أردوغان ظل خصمه الداعية فتح الله كولن، ويا ويل الرعاة من ذئبٍ جريح، فقرر البطش بالنخب، خصوصًا القادرة على القيام بـ"انقلاب" ناعم، مثلما جرى في انتخابات أنقرة وإسطنبول الأخيرة.. نخبة تستطيع أن تقول أو تسرب أو تفتح ذهن وتلفت الرأي العام إلى خيبات أردوغان وأكاذيبه.. فوضع القضاة وأساتذة الجامعات ووسائل الإعلام والصحافة هدفًا على منصة الرماية، يسلط عليه خطاباته وأجهزة أمنه وأنصاره من المبررين في الفضائيات والصحف.

وأخيرًا ألتفت أردوغان إلى خطورة الروائيين.. فطلبت شافاق من المجتمع الدولي قبل أيام دعم المبدعين والمؤلفين والصحفيين والأكاديميين الأتراك، وحذرت كما نشرت صحيفة "الجارديان" الإنجليزية من أن نظام أردوغان يقوم بسحق جميع آثار الديمقراطية في البلاد، كانت شافاق في مهرجان بلدة هاي السنوي للأدب والفنون في مقاطعة ويلز البريطانية قبل ثمانية أيام، وقالت للصحافة: "إن تركيا اليوم هي أكبر سجن للصحفيين على مستوى العالم، كما أن أوضاع الأكاديميين ليست أفضل حالًا"، وأضافت: "أن الآلاف من الأشخاص فقدوا وظائفهم لمجرد أنهم وقعوا على عريضة تطالب بالسلام".

شافاق ليست ضعيفة، وهي تكتسب قوتها من مكانتها ككاتبة في العالم، هي التي واجهت الديكتاتورية مبكرًا، وقد حكم عليها بالسجن (تم إسقاط الحكم) من قبل بسبب رواية "لقيطة إسطنبول" التي تعرضت لمذبحة الأرمن التي قُتل فيها مليون أرمني على يد القوات التركية، والتي لا يريد أردوغان حتى الآن تقديم اعتذار عنها ودفع تعويضات لضحاياها، وكانت شافاق استُفزت على خلفية اعتقال الكاتب التركي عبدالله شفقي والناشر علاء الدين توبوجو قبل أيام، والسبب هو تعرض روايته "عمارة زمرد" الصادرة قبل ست سنوات إلى مسألة التحرش الجنسي بالأطفال، عندما يكتب روائي عن شيء فهو لا يروج له ولا يقوم بفعله وفي جوانب من روايات كثيرة فإنه يكتب لينبه، يحذر، ويدين بصورة فنية.

وكانت شافاق نفسها قد تلقت طلبًا من المدعي العام التركي بقراءة رواياتها قبل النشر، وهذا طلب جديد في تاريخ الرواية في العالم لأنه في الديكتاتوريات الراسخة تُقرأ الرواية بعد الصدور ويتم سجن صاحبها ومصادرة نسخ الرواية من الأسواق.

هذا القمع الذي يمارسه موظفو أردوغان على المبدعين يُفقد نظامه أحد أهم أركان تركيا الحديثة، فقد تسلل نمط الحياة التركية إلى الشرق الأوسط، عن طريق المسلسلات المدبلجة التي أبهرت العرب والمصريين، وساهمت في ضخ أعداد هائلة من السياح الذين سافروا ليروا على الطبيعة ما تابعوه على الشاشات.. كما استحوذ روائيون أتراك على اهتمامات المثقفين برواياتهم الرائعة التي احتلت مساحة بدت فارغة مع نقص الإمدادات من أدب أمريكا اللاتينية وإيطاليا وترجمات الأدب الروسي.

نحن أمام موجة من تيار أدبي تركي يعارض نظام أردوغان، وفي الطليعة منه أورهان باموق الذي اتهم أردوغان بالاستبداد وقمع الحريات، ونقل حرية التعبير في البلاد للحضيض، فتلقى تهديدات بالقتل، وبالإضافة إلى باموق صاحب كتاب "إسطنبول.. الذكريات والمدينة" وشافاق وشفقي هناك عائشة كولين وأصلي أردغان وغيرهم.

ما قالته شافاق أخيرًا في ويلز هو دور المثقفين الذين، كما كتب الروائي الروسي الشهير أنطون تشيكوف لأخيه في رسالة منشورة في كتاب "رسائل إلى العائلة": لا يستطيعون النوم بملابسهم ورؤية كل تلك الشقوق المليئة بالحشرات.

وأتمنى حدوث أمرين، هما: صدور بيان تضامن من اتحاد الكتاب في مصر مع شافاق ودعم الكتاب الأتراك في مواجهة النظام القمعي، والأمر الثاني دعوتها إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب المقبل، وكان المعرض قد دعا في دورته التاسعة والثلاثين أورهان باموق.

لقد ألقت شافاق حجرًا في بحيرة راكدة، هي التي كتبت في "قواعد العشق الأربعون": "أما إذا سقط الحجر في البحيرة، فلن تعود البحيرة ذاتها مرة أخرى".

(الأهرام)

التعليقات