كرة قدم

الكتابة في أي شيء غير كرة القدم اليوم أمر غير جائز؛ لأن كل الناس اليوم مشغولة بالكرة، ولن يهتم أحد بأي كلام أو كتابة في أي شيء آخر. الجمهور اليوم مزاجه كورة، ويجب احترام إرادة الجمهور. إلى هنا وتنتهي صلاحية نظرية "الجمهور عايز كده"؛ فللجمهور الحق في أن يحدد الأولويات والموضوعات التي يحب أن يقرأها، لكن ليس له أن يفرض علينا رأيا معينا في هذه الموضوعات. لهذا فسأكتب عن الكرة، لكنني سأكتب الكلام الذي يرضيني أنا، ويا ريت يرضي الجمهور أيضا.

الكرة هي اللعبة الشعبية الأولى في العالم. إذا ذهبت إلى دول أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، ستجد أن الكرة هي اللعبة الشعبية الأولى. الشعبية التي تحظى بها كرة القدم في كل بلاد العالم في حاجة إلى تفسير، وهذا ما سأكتب عنه اليوم. لكنني أتمنى لو أن أحدا يفسر لنا الظاهرة العكسية، أي ظاهرة تلك البلاد القليلة التي نجت من حمى كرة القدم، كيف نجت، ولماذا؟ أقصد بلاد مثل الهند وباكستان وسريلانكا؛ وكلها بلاد في شبه القارة الهندية التي احتلها الإنجليز لقرون طويلة، فلماذا لم تأخذ هذه الشعوب عن الإنجليز كرة القدم رغم سنوات الاحتلال الطويلة؟

أعود إلى السؤال السهل عن شعبية كرة القدم في بلاد العالم المختلفة، وأقول إن شعبية الكرة ترجع إلى أنها لعبة الفقراء الذين لا يملكون شيئا، فأي إنسان يستطيع أن يلعب كرة القدم وهو مرتديا أي ملابس، حتى الجلابية الطويلة الفضفاضة لم تمنعنا ونحن صغار من لعب الكرة، بعد ربط الجلابية عند الوسط ما دامت الملابس الداخلية ساترة بقدر كاف.

كان العادي قديما أن يلعب العيال كرة القدم حفاة، إما ارتداء حذاء كاوتش رخيص ماركة باتا فكان امتيازا لأبناء الموظفين المتعلمين. الكرة في الماضي هي الكرة الشراب، وكل ما تحتاجه لصنعها هو شراب، أي جورب، قديم، وكمية كافية من الإسفنج المسروق من كراسي أي أتوبيس نقل عام، بعد تقطيعها بمطواة قرن غزال أو موس حلاقة مستعمل، وكمية كافية من الخيط تلفها حول الشراب الممتلئ بالإسفنج، وتنقع كل هذا في المادة اللاصقة بيضاء اللون التي تسمى "كله"، حتى يتماسك ويكتسب الصلابة والمرونة المطلوبة كالكرة. لقد انقرضت الكرة الشراب، ولم يعد أحد يصنعها الآن، وأصبح البعض يفضل شم الشرابات والكله، فيما يشترون الكرة.

لم يكن اقتناء الكرة في الماضي أمرا متيسرا، ففي طفولتي وصباي لم أعرف أحدا يمتلك كرة قدم حقيقية ملكية خاصة، فقد كانت الكرة حكرا مؤسسيا، نجدها فقط في مراكز الشباب والأندية، وبعض المدارس المحظوظة. عندما كبرنا قليلا حظي جارنا عبدالله بكرة حقيقية مرقطة باللونين الأبيض والأسود، أحضرها له والده الذي كان يعمل نقاشا في ليبيا.

كرة القدم هي لعبة شعبية؛ لأنها لعبة جماعية، يزيد فيها عدد اللاعبين عن أي لعبة أخرى. لا يمكن للعبة فردية أن تصبح لعبة شعبية، فالفضل في الفوز في اللعبة الفردية يعود للاعب وحده فقط؛ أما في اللعبة الجماعية فالفضل في الفوز يعود للفريق كله. حتى المشجعين ينسبون لأنفسهم بعض الفضل في الفوز، بما في ذلك هؤلاء الذين شجعوا أمام شاشات التليفزيون؛ ألم يدعو للفريق ويتمنون له الفوز، فهذا يكفي؟.

الأهداف في كرة القدم قليلة عزيزة، وتسجيلها يطلق أكبر صيحة فرح جماعي من ملايين المشاهدين. الأهداف في ألعاب جماعية مثل كرة السلة واليد والطائرة، كثيرة متتالية، ولا يعني تسجيلها أن فريقنا المفضل فائز بالضرورة. الانتصار في الألعاب الجماعية الأخرى يأتي تدريجيا عبر تسجيل عدد كبير من الأهداف المتتالية طوال المباراة؛ لكن الفوز في كرة القدم يأتي مفاجئا، وبعد أن يكون اليأس قد سيطر على النفوس، وعندها يأتي الهدف، فتنطلق صيحة فرح كبرى، يرتفع معها مستوى الأدرينالين والسيرتونين المفروزين في الدم. فتكون فرحة جماعية مفاجئة تشترك فيها كل أمة المتفرجين. يا رب نفرح اليوم وكل مرة يلعب فيها فريقنا حتى يوم المباراة النهائية في التاسع عشر من يوليو.

التعليقات