حريق في العتبة

احترق سوق خضار العتبة، قبل أربعة أعوام التهم حريق كبير سوق الحمزاوي، وبعدها بعام التهم حريق آخر محلات كثيرة في العشماوي. وقعت الحرائق الثلاث في مثلث لا يزيد ضلعه على 500 متر، إنه المثلث الأكثر ازدحاما في وسط القاهرة التجاري، في المنطقة الواقعة بين القاهرة الخديوية والقاهرة الإسلامية.

الحرائق تحدث في كل مكان، وليس غريبا أن تقرأ عن حريق اندلع في شقة في أحد أحياء المدينة، وعن نجاح الحماية المدنية في إخماده. لكن الحرائق في قلب القاهرة لا تندلع في شقة أو محل أو حتى عمارة، لكنها تقع في حي بأكمله، تبدأ بمحل أو مخزن واحد، ولا تنتهي قبل أن تلتهم عشرات المحلات والمخازن والشقق؛ لأن الازدحام الشديد في هذه المنطقة يخالف كل قواعد الأمان والحماية المدنية، ويعكس العشوائية التي تدار بها أمور السكن والتجارة وأكل العيش في المدينة، كما يعكس الشكلية المخيمة على أداء الموظفين في الأحياء والإدارات، والفساد الذي يقف وراء كل هذا.

لقد تجمعت كل هذه الأنشطة الخطيرة في هذه المساحة الضيقة تحت أعين موظفين مسؤولين عن النظام والنظافة والأمن والسلامة، ولم يتحرك أحد. أكاد أكون متأكدا أن كل محل في منقطة وسط البلد لديه ملف مستوف لشروط السلامة والأمان، لكن فقط على الورق. أنا على يقين من أن كل مخالفة في منطقة وسط البلد مسجلة في محضر، ليس تمهيدا لإزالتها، ولكن لزوم تستيف الورق وحماية ظهر أحد الموظفين.

خسر التجار الملايين من الجنيهات في سوق العتبة، ولكنهم في النهاية دفعوا ثمن قبولهم العمل في منطقة خطرة، وثمن مساهمتهم في مؤامرة التواطؤ التي تربط موظفين فاسدين بمواطنين أصحاب مصلحة. لكن كل المصريين خسروا سوق العتبة التاريخي الذي تم بناؤه قبل أكثر من 150 عاما. كان بناء السوق جزءا من مشروع تحديث القاهرة، فتم بناؤه على طراز الأسواق التي تجدها في مدن إنجليزية وأوروبية، حيث المبنى المنظم النظيف بديلا عن نصبات الشوارع المعروفة في الأسواق الشعبية. لو فاتتك زيارة سوق العتبة قبل ضياعه، وتريد أن تعرف حجم الجريمة التي ارتكبناها مع هذه المباني التاريخية والعلامات الحضارية، فما عليك سوى زيارة سوق باب اللوق الذي بني في فترة مقاربة لنفس الغرض، وإن كانت المأساة في باب اللوق على نطاق أقل بكثير مما كانت عليه في سوق العتبة.

منذ فترة وهاجس الحريق يطاردني كلما مشيت في قلب القاهرة المزدحم، حيث المواد القابلة للاشتعال في كل مكان، والشوارع أضيق من أن يمشي فيها البشر، فما بالك بدخول سيارات الإطفاء. الفزع من الحريق يصل لذروته عندما أجلس على مقهي في الحسين، فالشوارع ضيقة، وفحم الشيشة المشتعل في كل مكان، وأسلاك الكهرباء تتسلق الجدران وتتنقل طائرة من بيت لبيت. إنها حرائق تنتظر الاشتعال في أجمل جزء في القاهرة، وفي قلبها الحقيقي الذي تباهي به الأمم، في خان الخليلي وقصر الشوق والسكرية وبين القصرين وبيت القاضي، فهل يملك أحد أن يطمئنا على سلامة قلب مدينتنا ووطننا؛ وتذكروا أننا لن نسامحكم أبدا لو حدث مكروه لهذا الجزء من القاهرة؛ فالأمر أكبر بكثير من عدد من المباني والملايين من أموال البضائع، إنه تاريخ وهوية مصر.

 

التعليقات