وداع قبل الوداع

جسد نحيل شفاف، يحيطه كفن أبيض، تلك كانت هى اللقطة الأخيرة، كما رأيته فى الجامع قبل صلاة الجنازة، أبدا لم تكن تلك هى اللقطة الختامية، دعونا نعود إلى نهاية شهر نوفمبر من العام الماضى، فى الدورة رقم (40) بمهرجان القاهرة السينمائى، كانت كل العيون حريصة على أن تعلن بقوة الحب، وظلت الأيدى تصفق له بضع دقائق على المسرح الكبير بدار الأوبرا، نحن جميعًا نقف امتنانًا لهذا الرجل الذى لم يعرف طوال رحلته سوى العطاء، والغريب أنه لم يكن يدرى إلى أى مدى ساهم بالقسط الأكبر فى خلق الوعى بالسينما الأجنبية، وذلك على مدى نصف قرن، لكل المصريين والعرب، هذه هى اللقطة التى تليق بالأستاذ يوسف شريف رزق الله، كانت ملامحه وهو يلوّح بيديه، تؤكد أنه كان مدركًا أنها الذروة، عاش بعدها بضعة أشهر، وحظى بأكثر من تكريم أيضًا، إلا أنه فى حقيقة الأمر كان قد شهد معنا فى نوفمبر الماضى لحظة وداعه.

بالنسبة لجيلنا هو النافذة الثقافية والمجانية الوحيدة التى كانت متاحة وقتها من خلال التليفزيون، فكان هو المعدّ لبرامج متخصصة فى السينما العالمية، مثل (نادى السينما) تقديم درية شرف الدين، و(الأوسكار) تقديم سناء منصور، كما كان يقدم إطلالة أسبوعية على السينما فى العالم.

صاحب البنية التحتية لمهرجان القاهرة، كمدير فنى يختار الفيلم الذى يُعرض والنجم الذى يُكرم، لم يتوقف عن منح المهرجان الكثير، ظل حاضرًا فى كل التفاصيل وهو يعد للدورة القادمة للمهرجان، آخر لقاء قبل 20 يومًا فى اللجنة العليا، جاء مبكرًا كعادته، متقد الذهن لديه إجابة حاضرة لكل الأسئلة، لاحظت أنه أجرى عملية فى شرايين الرقبة، هل لها علاقة بالغسيل الكلوى، الذى كان يجريه مرتين فى الأسبوع، لم أسأل، المهم أنه حاضر بيننا.

كان هو الصوت الحاسم لتعيين الكاتب والمنتج محمد حفظى رئيسًا للمهرجان بعد جلسة مع د. إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، كانت هناك فى الكواليس تدار معارك ضارية للدفع عنوة بأسماء أخرى.

السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا على مستوى قواه الجسدية، كان هناك إحساس أن الفارس أوشك أن يترجل، شهدت المهرجانات الأخيرة وعكات صحية متتالية، قبل نحو ثلاث سنوات فى (برلين) سقط وهو يتابع المهرجان وانتقل للمستشفى، كنت أتصور أنه لن يكرر السفر خارج الحدود، إلا أنه ظل لديه نفس الشغف، الجسد لا يلبى النداء، ولكن يوسف متواجد وحاضر يتابع ويشارك بالرأى.

لا يترك مقالًا إلا ويقرؤه، وتتعجب، متى يجد متسعًا من الوقت، لديه عين تلتقط الموهوبين، قبل 15 عامًا نبهنى إلى اسم الناقد محمود عبدالشكور الذى كان ينشر وقتها فى جريدة (روزاليوسف)، قبل نحو 4 سنوات أشار إلى أندرو محسن بجريدة (المقال).

من المؤكد أن الحياة الفنية والسينمائية والإعلامية مليئة بالصراعات والضربات تحت الحزام، بينما يوسف شريف رزق الله كان هو غاندى الحياة الفنية والإعلامية، يرفض المبدأ السائد (العين بالعين) لأنه سيؤدى فى النهاية إلى أن يُصبح الجميع عميانًا.

عندما يتلقى ضربة لا يردها بل يواصل العطاء بتفانٍ، وهكذا كانت حياته عطاء بلا حدود، كفن أبيض وجسد نحيل شفاف، تحمّل الكثير دون أن يصرخ، وأخيرًا سكنت الآلام!!.

التعليقات