متى نلعب بجدية ؟

لم تفسح الفلسفة التقليدية مكاناً مهماً للعب فى موضوعاتها، فاتهمت بإهمال جانب بارز من النشاط الإنسانى لصالح مفاهيمها التأملية. ثم جاءت الفلسفة المعاصرة لتهتم بموضوع اللعب إهتماماً كبيراً، فاتهمت بالمبالغة فى تضخيم دور اللعب بهدف زعزعة قدسية الحقيقة والإطاحة بالقيم المطلقة مثل الحق والخير والجمال. فى رأينا التهمة الأولى للفلسفة التقليدية مشروعة، أما التهمة الثانية للفلسفة المعاصرة فهى إفتراء.
فى البدء جعلت الفلسفة مهمتها الأولى هى البحث عن الحقيقة، واعتبر أفلاطون أن العالم الذى نعيش فيه هو عالم من الصور الزائفة، أما الحقيقة فهى موجودة فى عالم آخر هو عالم المثل أو الأفكار الأبدية. فإذا اعتبرنا عالمنا المادى خالى من الحقيقة، فعلينا بالأحرى أن نعتير عالم اللعب الذي يصنعه الخيال هو أيضا خال من الحقيقة ومن الطبيعى إذن أن ندير ظهرنا له. ويلخص الفيلسوف الفرنسى كوندياك هذه الإستهانة بمكانة اللعب فى الوجود الإنسانى فى تعريفه للعب بأنه "كل اشغال قليل الجدية يتم تخيله لراحة من يعملون أو لإشغال الذين لا عمل لهم، وهو ضرورى فى حالة اجتماع أفراد كثيرين، إذ لا يمكن للمحادثة بينهم أن تستمر بينهم طويلاً، فنحن نستخدم اللعب للتخلص من الأشخاص الذين لا نجد شيئاً نقوله لهم، كما يستخدم فى الغالب ليتخلص المرء من نفسه". وعندما أراد الفيلسوف كانط تفسير ميل الإنسان إلى الإبداع الفنى الذى يتسم بأنه خال من المنفعة، اعتبر هذا النشاط نوعاً من اللعب، فالفن واللعب كلاهما نشاط منزه عن الغرض.
بدأ رد الاعتبار لموضوع اللعب مع عالم الانثروبولوجيا الألمانى هويزنجا فى كتابه "الإنسان اللاعب" الصادر عام ١٩٣٦، وهو ينتقد فى صفحاته القرن التاسع عشر الذى تصور تحت تأثير العقلانية والنفعية أنه حرر الإنسان من الشعور بالخطيئة وقضى على السر الكامن وراء وجوده، واعتبر العامل الاقتصادى هو المحرك للتاريخ الإنسانى. ولهذا لم تقدم التيارات الفكرية الكبرى في القرن التاسع عشر مثل الليبرالية والاشتراكية أي اسهام في هذا الموضوع. فى حين أن البشر تحركهم نوازع كثيرة تتجلى بأفضل ما يكون فى ألعابهم التى تعبر عن رغبة الإنسان المتقدة فى الشعور بالانتصار وفى الكسب، حتى لو كنا فى نهاية المطاف لم نكسب شيئا.
التصور الذى قدمه هويزنجا كان يهدف إلى إدماج اللعب كبعد أصيل فى الوجود الإنسانى، ويكفى أن ننظر إلى الطفل الذى يقضى أغلب وقته فى اللعب ويشعر بالسعادة وهو مستغرقاً فى ألعابه ويشعر بالضجر والخوف حين يعود لعالمه الواقعي. كما يجدر أن نلاحظ الوقت الكبير الذى يخصصه البشر لألعابهم وأعداد المنخرطين من لاعبين ومتفرجين لكى نعى أنها ظاهرة مهمة لم تأخذ بعد حقها فى الدراسة.
وقدم المفكر الفرنسى روجيه كايوا تحديداً لخصائص نشاط اللعب الذى يتسم بالمفارقة، فهو نشاط حر وإن كان مقنناً، ونشاط خيالى لكنه يتحقق واقعياً، ويستغرق زمناً لكنه غير منتج. ويحاول أن يقدم تصنيفاً لألعاب البشر المتنوعة فيجمعها فى أربعة أنواع رئيسية هي المنافسة والحظ والمحاكاة والدوخة: المنافسة التى تنتهى بغالب ومغلوب، والانتظار السلبى للحظ، وتقمص دور شخص آخر، وألعاب الدوخة كالمراجيح . مال بعض الفلاسفة فى القرن العشرين إلى استخدام اللعب كنموذج تفسيرى لظواهر أخرى مثل نظرية فتجنشتين فى ألعاب اللغة، والتى تجعل معنى كل عبارة مرهونة بادراجها داخل لعبة لغوية لها قواعد معينة. وتصبح نفس العبارة لا معنى لها إذا استخدمت داخل لعبة أخرى، فكلمة الشمس تغرب الساعة الخامسة لها معنى فى الحياة اليومية ولكن لا معنى لها فى لغة العلم! وكذلك جادامار الذي اعتبر نمط وجود اللعبة هو نفسه نمط وجود العمل الفني، ويختلف عن كانط في انه اعتبر كلاهما جملا لحقيقة. وامتد بعد ذلك استخدام اللعب كنموذج تفسيري إلى مجالات السياسة والاقتصاد، فنحن نتحدث الآن عن قواعد اللعبة الديمقراطية.
أما التناول الأشمل لموضوع اللعب من الناحية الفلسفية قدمه الفيلسوف الألمانى أوجين فنك، فبعد تحليل عميق للألعاب وأنواعها وعناصرها ينتهى إلى توضيح الأهمية الوجودية للعب في حياة الانسان والتي لا تقوم على الخلط بين عالم اللعب والعالم الواقعي وانما يتجاوز الانسان باللعب الحدود التي يفرضها عليه العالم الواقعي. فالإنسان في اللعب يتعالى على ذاته ويتخطى الظروف التى تحيط به، والتى يحقق نفسه فى إطارها. وبذلك ينطلق نحو الحرية. إنه يقفز خارج ذاته ويغوص فى العمق الحيوى للإمكانيات المتاحة.
كل هذه الإسهامات تلقى أضواء على هذا الشغف العالمى بالألعاب الرياضية وخصوصاً كرة القدم التى تتسم بشكل متسارع بملامح العولمة. ولو قيل أن هذه الرياضة للأسف تفسدها لعبة المال وتنحرف بها عن هدفها نقول ليس ذلك فى كرة القدم وحدها ولكن حينما يكون هناك شغف انسانى بشىء فإن رأس المال يدخل لتحقيق أرباح من ورائه. ولكن يظل الشغف الجماعي ظاهرة تستحق أن نسبر أغوارها.

(عن صفحته)

التعليقات