سينما الاسلام السياسي !

إنّها أطول حرب عالمية في التاريخ.. استغرقتْ الحرب العالمية الأولى أربع سنوات، واستغرقتْ الثانية ستّ سنوات. وفي التاريخ الأبعد.. امتدت الحروب الأوروبية - الأوروبية، والحروب الآسيوية - الآسيوية.. مددًا طويلة، كما امتدت الحروب الصليبية إلى مائتي عام. لكنّ حروب العالم الإسلامي ضدّ الخوارج القدامى والخوارج الجُدد.. قد استمرت قرونًا طويلة، وامتدّت لأكثر من ألف عام.
واليوم، فإنّه بينما تصعد العديد من مناطق العالم إلى أعلى، فإنّ أكثر من خمسين دولة في العالم الإسلامي تجد من يشدّها إلى أسفل.. كلما تحركت خطوة إلى الأمام، أو عاودت الصعود من جديد. تخوض الخمسون دولة الحرب ضدّ غابة سوداء من التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة. إنها تنظيماتٌ لا نهائية، لا تبدأ إلّا لتستمر، ولا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد.
تواصل الخمسون دولة الحرب اعتمادًا على القوة الصلبة من دون إعطاء الاعتبار الكافي لدور القوة الناعمة. إنّ القوة الصلبة إذا ما نجحت في القضاء على خوارج اليوم، لا يمكنها القضاء على "الخوارج المحتملين" أو "خوارج المستقبل". وليست غير القوة الناعمة ما يمكنها إغلاق الدائرة مع القوة الصلبة.. وإحكام الباب على قبضة الجميع.
لقد مضَى البعض في طريق القوة الناعمة، وقد برزتْ منتديات ومؤسسات نجحت في تطوير العمل ضدّ التطرف، وتعزيز الحركة ضد الإرهاب. وقد اتخذت معظم هذه الهيئات الطريق النخبوي في العمل، وهو طريق مهم ولازِم.. غير أنّه قد بدَا في بعض الأحايين وكأنّه خطاب داخلي.. حيث يدعو الوسطيون الوسطيين إلى الوسطيّة، ويدعو المعتدلون المعتدلين إلى الاعتدال.. فيما يشبه حوار الذات للذات.
لا يجب أن تهبط النخبة الفكرية الرفيعة بأطروحاتها حتى تصل العامّة، وتجتذب الغوغاء، ذلك أنّ هناك آليات أخرى في القوة الناعمة مهمتها طىّ المسافة بين النخبة والجمهور، وردْم الأخدود بين العلماء والبسطاء. إنّ السينما والدراما هى أهم الطرق في توسيع المساحة ونشر الرسالة.
لم تقم السينما والدراما بما يجب، حاول بعض الرائعين ذلك، لكنهم كانوا من دون سندٍ أو رعاية، واختار الجميع - إلّا قليلا - المضىّ في طريق الشهرة والمال.
باسم الكوميديا جرتْ السخرية من القمم والقيم، وجرتْ إهانة القادة والرموز. لقد سحقتْ الضحكات الظالمة مقامات الكبار، وهدمت الإفيهات الرخيصة نظريات المعرفة. كانت جحافل المتطرفين تمرق طريقها بين الناس، بينما القوة الناعمة غارقة في صراع المال وأخبار النجوم.  وحين أفلتتْ بعض الأعمال من ذلك الانهيار، لم تواصل لتصبح طريقًا رئيسيًا أو خيارًا استراتيجيًّا.
إن ما كان رائعًا - ومحدودًا - قد سار في طريقين: طريق الهدم، وطريق البناء. حيث نهضت أعمال فنية رفيعة لتهدم جوانب من المنشآت الفكرية والتنظيمية للخوارج الجدد، كما نهضت أعمال أخرى لتضيئ على رموز الوسطية ونماذج الاعتدال.
لقد كانت القوة الناعمة المصرية.. سينما ودراما هى الأقوى في تلك الحرب، لكن تراجعها بعد أحداث 11 سبتمبر.. قد جعل من السينما الآسيوية الأقوى في الحرب ضد الخوارج. ولقد كان الفيلم الهندي "اسمي خان" - والذي قام ببطولته الفنان شاروخان.. والذي يروي قصة شاب آسيوي مسلم أراد أن يصل إلى الرئيس الأمريكي ليقول له: إن المسلمين ليسوا إرهابيين- بمثابة تأسيس لما يمكن تسميتها "سينما 11 سبتمبر".
توزّعت "سينما 11 سبتمبر" بين الشرق والغرب.. فبينما ساءت صورة المسلمين في "سينما 11 سبتمبر الغربية" جرت محاولات عديدة لتحسينها في "سينما 11 سبتمبر الآسيوية". وإذا كان فيلم "اسمي خان" هو الأشهر هنديًّا، فإن فيلم "آيات الحب" هو الأشهر إندونيسيًّا.
إندونيسيا هى أكبر دولة إسلامية في العالم، وقد شهدت إنشاء أول دار عرض سينمائي عام 1900، كان الهولنديون يسيطرون على  صناعة السينما في زمن الاستعمار الهولندي لإندونيسيا، لكن المخرج الإندونيسي "أوسمار إسماعيل" نجح في إخراج أول فيلم إندونيسي. زار "أوسمار إسماعيل" الملقب بـ"أبو السينما الإندونيسية" مصر.. وتعلم في القاهرة كثيرًا من تقنيات صناعة السينما.
ومن المفارقات أن أول فيلم إندونيسي كان نتاج خبرة سينمائية مصرية، كما أن أشهر فيلم إندونيسي حتى الآن قد جرت أحداثه في مصر. ففي عام 2008 تمّ طرح فيلم "آيات الحب" في دور العرض الإندونيسية، ولقد حطّم الفيلم الأرقام القياسية السابقة، بعد أن تجاوز عدد مشاهديه (30) مليون شخص.
جاء الفيلم ردًّا على فيلم هولندي متطرف بعنوان "فتنة". وهو ضمن أفلام "سبتمبر الغربية" التي  هاجمت الإسلام. إن فيلم "آيات الحب" هو أحد أهم الأفلام التي أنتجت في العالم للرد على ظاهرة الإسلاموفوبيا، وصعود منحنى الخوف من الإسلام. وقد جاءت رصانة الفيلم وقيمته الفكرية من كوْنه مأخوذًا من رواية الكاتب الإندونيسي المعروف "حبيب الرحمن الشيرازي".. الذي درس في جامعة الأزهر.. وألّف رواية نجحت نجاحًا كبيرًا.. يروي فيها تجربته في الأزهر، والحياة في القاهرة. إن بطل الفيلم الإندونيسي العالمي "آيات الحب" خريج جامعة الأزهر، ولقد كان الأزهر حاضرًا في رسالة الفيلم وفي كل معاركه.
لقد نبهت أحداث 11 سبتمبر المثقفين الروس، فتأسس في عاصمة جمهورية تتارستان الروسية "مهرجان قازان للسينما الإسلامية".. وفي عام 2019 جرى عرض الفيلم الأوزبكي "الإمام الترمذي". وهو يمثل واحدًا من أشهر الأفلام الأوزبكية، حيث تسعى سينما أوزبكستان الصاعدة لعرض تاريخها الإسلامي وفق رؤية وسطية وحداثيّة جذابة.
ربما يتوجب علىّ أن أعيد سطورًا سبق أن نشرتها ولاقتْ قبولًا رغم ارتفاع صوت المعارضين: إن الفكر السينمائي أكبر من السينمائيين، والفكر الدرامي أكبر من الدراميين. ولا يجب أن يقرر الفنانون  وحدهم مفهوم ورسالة القوة الناعمة. لا يمكن ترك سلاح الدمار الشامل ليعمل منفردًا من دون رؤية أعلى. وربما يتوجّب علىّ أيضًا أن أُعيد طرح مصطلح "سينما الإسلام السياسي".. وأن أجدّد النداء بضرورة أن تتوحّد المعركة في الدول الخمسين.. نخبةً وجمهورًا.
ستبقي القوة الصلبة أساسية في مكافحة الإرهاب لكن لا يجب أن نتركها وحدها. لم ينجح السيف وحده طيلة ألف عام في اقتلاع الخوارج.. لابد أن تكون القوة الناعمة في قلب المعركة. إن مشهدًا واحدًا قد يُغني عن ألفِ رصاصة، وصورةً واحدة قد تُغني عن ألفِ سيف.
( عن الاهرام )

التعليقات