كل من في الشارع يترنح!!

الشارع يموج بالزحام، ، وبأصوات متباينة، يختلط فيها الزعيق، والغناء، والهتاف، وعزف الموسيقى، وتسمع من خلال الأصوات المدوية، أبواق السيارات، ورنين أجراس بسكليت، أو عربة "حنطور" ، وفرقعة السياط في أيدي سائقي عربات "الحنطور" ، أحياناً يلهبون بها ظهور الجياد، وأحياناً يلهبون بها ظهور الصبية المتعلقين بمؤخرة عرباتهم،وأحياناً يلهبون الهواء بسياطهم، ليشقوا لهم طريقاً للمرور!

الجماهير في هذا الشارع لا تمشي ولكنها تدور وتتجمع، كل من في الشارع يترنح، الناس، والمقاهي، والفنادق، ودور السينما والأضواء الملونة التي تغدقها المسارح والكباريهات على واجهاتها.

الكلمات، والقهقهات، هي الأخرى تترنح، الذين يزعقون تخرج الكلمات من أفواههم مبتورة ملتوية، كالسيرة المعوجة، أو السلوك السيئ،والذين يقهقهون تعلو قهقهاتهم وتهبط، وتتقطع وتتمايل، كسكران شرب زجاجة كاملة من خمر رديء!

لا يوجد مقعد خال في مسرح، أو مقهى، أو دار سينما، أو كباريه، وعلى أبواب المقاهي يعرض الحواة ألعابهم. يحشون صدورهم بالثعابين، ويأكلون النار، ويبلعون المسامير، وإلى جانبهم فرقة تعزف (البيانولا) ، وبين أعضاء الفرقة من تخصص في المشي على يديه، ومن تخصص في حمل بقية أعضاء الفرقة فوق قدميه!

وعند أبواب الكباريهات، وقفت أكثر من غانية، تعرض مفاتنها الرخيصة، وجه ملطخ بالأحمر والأبيض، تحملق منه عين خائنة، وابتسامة ماجنة، وذراعان تعرتا حتى الإبطين، ساقان عاريتان، وفستان قصير ضيق الخناق على الردفين، فتمرد الردفان على الفستان!

ومن كل ناحية تنطلق أغان، وألحان، ترددها المجموعات، أو المطربون في المسرح، وترددها معهم الجماهير في الشارع الكبير!

لقد أصبح صوت مصر، صوت عاطفتها، ومرحها وألمها، ونضالها.. إنه صاحب كل هذه الألحان التي تعبر عن الحب، والحزن، والأمل، والتمرد على الظلم، والاستغلال، والاحتلال!

إنه الرجل الذي انفعل بآلام الشيالين والسقايين، وغنى في وقت واحد "ضيعت مستقبل حياتي" و "شفتي بتاكلني أنا في عرضك" و "فلفل فلفل اهري يا مهري" و "زوروني كل سنة مرة" و "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" و "قوم يا مصري مصر أمك بتناديك" و "ياللي أوطانهم تجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم".

***

وفي عام 1923 أعد سيد درويش نشيداً وطنياً ليغنيه مع المجموعة في حفل استقبال الزعيم سعد زغلول، لمناسبة عودته من الخارج، وسافر سيد درويش إلى الإسكندرية، ونام عند شقيقته في حي محرم بك وفي اليوم المحدد للاحتفال، وهو يوم 10 سبتمبر، كانت المجموعة قد حفظت النشيد في الصباح وانتظرت سيد درويش، ولكنه لم يحضر، ولم يتعجب أحد لذلك، فقد كان الشيخ سيد لا يلتزم بأي موعد.

وظهر سعد زغلول في الاحتفال، وعزفت المجموعة نشيد "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" ورددت الجماهير هذا النشيد بقوة وحماسة، وأبدى سعد زغلول إعجابه باللحن الشعبي العظيم، وسأل: من الذي وضع هذا اللحن!

قيل له: سيد درويش.

فقال: أين هو لأحييه؟

أجابوه لقد مات.. اليوم مات سيد درويش!

عندما سألوه ماهي الهوية التي تدخل بها عالم الخلود، الشاعر أم الكاتب الصحفي ؟ أجابهم الشاعر وهناك أمارس الصحافة ، تلك كانت مقتطفات بقلم الشاعر والكاتب الكبير كامل الشناوي من كتاب لي لم استقر على أسمه ، يقدم حكايات ومواقف وتحليل يعيد للأجيال الجديدة شيء من رحيق كامل الشناوي . حاولوا بحسن نيه ربما ، أو بسوء نيه غالبا ، أختصاره في قصيدة واحدة (لا تكذبي) ،وحكاية واحدة بطلة (لا تكذبي )، إلا أن ومضات كامل الشناوي على الورق ، قادرة على اختراق حاجز الزمن ، ضاربة في كل الاتجاهات سياسية واقتصادية واجتماعية وفنية ، فهو صاحب ابجدية استثنائية في التعبير شعرا ونثرا ، لا تزال تملك رحيق الحياة ، ولهذا استعدتها معكم ،فهي تتحدث عن الفنان والشارع والقضية ، تلك الثلاثية المفقودة تماما الآن!!

(المصري اليوم)

التعليقات