جوكر و١٩١٧.. وسياسة الجولدن جلوب

شاهدت ١٩١٧ في دور العرض السينمائي بمتعة رغم بشاعة المأساة التي يُجسدها. هكذا هو الفن الخلَّاق يصنع من الفوضى والدمار حالة جميلة من المتعة الفنية، يخلق من القبح والخراب وأهوال المآسي تصويراً إنسانياً رائعاً يجعلنا نتذكر ونُقدر جهود مَنْ ضحوا بأرواحهم في الحروب والمعارك.

استغرقت في مشاهدته رغم أنه ليلة توزيع جوائز الجولدن جلوب استقر بداخلي انحياز لفيلم «جوكر»، لقوته الفنية ولغته السينمائية، لأثره الفكري والإنساني، ولطبقات الرمزية بين ثنايا مشاهده، وتكوين وتصرفات شخصياته المستندة في بنائها لتحليل نفسي عميق.

ورغم أن «جوكر» حصد جائزتين هما أفضل موسيقى تصويرية، وأفضل أداء تمثيلي لبطله المبدع خواكين فينيكس، لكنى كنت أتمنى أن يحصد جائزة أفضل فيلم التي كان مرشحاً لها، وكان لدي شعور دفين بأنه سيُحرم منها منذ اندلعت تلك الحملة التي ظلت تطالب برفعه من دور العرض السينمائي بحجة واهية أنه يعمل على تزايد وتفشي العنف في المجتمع الأمريكي. بينما الحقيقة أنه يكشف كثيرا من مشاكل المجتمع، فرغم تبديل الحقبة الزمنية للأحداث، فلا يزال ينطبق تماماً على الفترة الحالية - وعلى مجتمعات أخرى عديدة - فيكشف كيف يقوم المجتمع بأفراده ومؤسساته، وسياسييه بصناعة المجرمين، فبدلاً من مساعدة الإنسان المريض يتم السخرية منه والاستهزاء به ومعاملته بازدراء فيتم تحويله إلى مجرم قاتل لا يرحم في انتقامه.

أيضاً، ورغم هذا الانحياز لــ«جوكر» للمخرج تود فيليبس الذي شارك في كتابة السيناريو والحوار لفيلمه الذي يُعد تحفة سينمائية بكل المقاييس، لا أُنكر أني حين دخلت قاعة السينما لمشاهدة ١٩١٧ كنت أتمنى أن أشاهد فيلماً أقوي، وأجمل، وأهم. ففي سيكولوجيا الإعلام أثبتت الدراسات أن أي إنسان يُريد أن يستمتع ويستفيد بوقته مهما كانت الظروف، حتى عندما يكون في مناظرة مع أحد خصومه، أو كان يشاهد برنامجاً لأحد ألد أعدائه.

لا شك أن ١٩١٧ فيلم حربي كبير، مُستلهم من حكايات مينذز وهو جد المخرج الُمهدى إليه الفيلم. تدور الأحداث في نهارين وليلة أثناء ذروة الحرب العالمية الأولي. اثنان من الشباب العسكريين الإنجليز بالحرب - بليك يقوم بدوره الممثل دين تشارلز تشابمان، وشوفيلد الذي يٌجسده الممثل جورج ماكاي - يتم تكليفهما بعبور منطقة فرنسية تقع تحت سيطرة الألمان، ليُبلِّغا رسالة لقائد الفرقة الإنجليزية المكونة من ١٦٠٠ جندي الذي ينوي قائدها شن هجوماً على الألمان بعد ساعات قليلة في أعقاب انسحابهم من بعض المواقع.

كان انسحاب الألمان فخاً مدبراً ظل يتم الإعداد له قبل عدة شهور. التصوير الجوي وطائرت الاستطلاع كشفت الخدعة. لذا أصبح وقف هذا الهجوم مسألة حياة أو موت. اهتدت القيادة الإنجليزية في ظل ضيق الوقت وفي ظل انقطاع الاتصال إلي العثور شخص فدائي يمتلك من الحماسة - ليس فقط - ما يمنعه من التراجع، ولكن أيضاً شخصاً يمتلك دافعاً قوياً فيسابق الزمن ليمنع وقوع هذه المذبحة.

تحقق الهدف عندما اكتشفوا أن الشاب بليك يتواجد شقيقه الأكبر ضمن الـ١٦٠٠ جندي. الشاب المرافق شوفيلد سيتذمر، لأن الأمر برأيه مهمة انتحارية. لاحقاً سنراه هو الذي سيسابق الزمن. لا تقلق- عزيزي القارئ- فهذا ليس حرقاً للأحداث، لأنه تقريباً لا أحداث بالفيلم. إنه حالة بصرية عن الخراب الذي تُخلفه الحرب، يرصدها دون توقف أو التقاط الأنفاس المخرج سام ميندز الذي منذ أول تجربة روائية طويلة له «جمال أمريكي» حصد خمس جوائز أوسكار. وها هو فيلمه الجديد ١٩١٧ يحصد اثنتين من جوائز الجولدن جلوب؛ أحسن مخرج، وأفضل فيلم درامي وهي الجائزة التي ذهبت لجهة الإنتاج التي يمثلها ستيفن سبيلبرغ الذي ظل طوال الأشهر الماضية وفي كل مناسبة يشن هجوما على نتفليكس وإنتاجها، وينتقدها بشدة مؤكداً أنها لا تستحق جوائز الجولدن جلوب ولا الأوسكار. وذلك رغم أن تلك الشركة قدمت أعمالاً من الطراز السينمائي الرفيع على مدار العامين الماضيين، كان فيلم «روما» أحد أفلامها الذي حُرم كذلك العام الماضي من جائزة أفضل فيلم، وذلك حتى لا يتم الاعتراف بنتفليكس، كذلك هذا العام كانت نتفليكس تشارك بعدة أفلام في مقدمتها «الرجل الأيرلندي» و«قصة زواج».

في ١٩١٧، ستكون رحلة الشابين سيراً على الأقدام. أحد القادة سيُؤكد لهما أن المكان الذي سيعبران فيه آمن بما فيه الكفاية، لكن قائد آخر يسخر ويحذرهما من الهلاك. خلال مسيرة بليك وشوفيلد سنرى آثار الحرب، ومخلفاتها. الاستعدادات، بقايا الجثث، المنافذ الشائكة، التعرض للموت، الموت ذاته، السباحة فوق الجثث العائمة، الحرب جواً، الصراع بين طائرتين إنجليزيتين تُسقطان طائرة ألمانية، الشابين ينقذان الطيار رغم كونه من الأعداء لكن أحدهما سيدفع حياته ثمناً لذلك.

كل شيء سيمر بسرعة كبيرة. الكاميرا لا تتوقف، الفيلم يبدو ظاهرياً كما لو أنه قد تم تصويره في لقطة سينمائية واحدة. بالطبع تم تصويره في لقطات عديدة، لكنه في الأساس يعتمد على اللقطات الطويلة جداً والكاميرا المتحركة التي تلاحق الشخصيات. ثورة التكنولوجيا ساعدت في خلق هذا الإحساس الوهمي بأن الفيلم مصنوع من لقطة واحدة واسعة.

المشاهد واللقطات الإنسانية بالفيلم قليلة أو معدودة، منها محاولة إنقاذ أحد الشابين لزميله من تحت الأنقاض عندما ينفجر الخندق المفخخ، أو الحكي والضحك قليلاً، أو لحظة الموت، أو لحظة اكتشاف الأخ للفاجعة، لكنها جميعاً ليست مؤثرة بدرجة عميقة. لأن السيناريو يفتقد الاشتغال على المشاعر والعواطف طويلاً. كأنه فيلم عقلاني جداً. البطل الأساسي بالفيلم هو تصميم مواقع الحرب، الحشود من المحاربين، المجاميع وحركتهم، الخنادق، الأسلاك الشائكة وعليها بقايا الجثث، أو على حواف البحيرات والأنهر، بقايا الأسلحة والفئران الضخمة تتنقل بينها، الخندق المهجور الذي لغمه الألمان قبل رحيلهم ليكون مقبرة لأعدائهم. أسراب الجنود وهم يندفعون كالقذائف مع إنطلاق الإشارات.

مع ذلك، ورغم كل ما يتميز به الفيلم من بذخ إنتاجي وقوة في الإخراج، لكنه على مستوى السيناريو ورسم الشخصيات والمواقف يأتي في مرتبة تالية لفيلم «جوكر». والدليل على ذلك أنك قد تشاهد فيلم ١٩١٧ مرة واحدة، لكن يصعب أن تفكر في مشاهدته مرة ثانية، لا شيء يحتاج التأمل، أو إعادة المشاهدة. أما «جوكر» فكلما وجدته أمامك ستتوقف لمشاهدته وإعادة مشاهدته. إنه جوهرة سينمائية كلما لمحتها سيخطف بريقها ناظريك.

 

التعليقات