يريدون ليبيا دولة غير عربية

فى طرابلس باعة جائلون للسلاح، وهناك مواطنون يركنون الدبابات فى جراج منازلهم. وفى حفلات الزفاف تستطيع أن تستأجر مدفعاً مضاداً للطائرات، يتم حمله على ظهر سيارة دفع رباعى، ثم تبدأ الجولة بالسيارات والمدافع.. لتحية العروسين!

هكذا كان الوضع الذى نقله الإعلام العالمى من ليبيا قبل سنوات، وهو الوضع الذى ازداد تدهوراً بوصول آلاف المرتزقة إلى البلاد. إن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، الذى أسهم فى إنشاء المشهد الأول، عاد ليصنع مشاهد جديدة من تحطيم الدولة، ومصادرة الوطن.

لا يمثِّل الرئيس التركى بلاده بقدر ما يمثِّل قوةً غربيةً أعلى.. هى التى تدير وتوجّه. ويقول خصوم الرئيس أردوغان من بقايا حزب نجم الدين أربكان والإسلاميين القدامى.. إنها القوة نفسها التى جاءت به وأبقت عليه، وهى أيضاً القوة التى تدفعه للهجوم على قادة أوروبا، أو تهديد أعضاء الناتو، بما يفوقُ كثيراً قوة الجيش وقدرة الدولة.

إن ما يواجه ليبيا اليوم هو أزمة وجود لا أزمة حدود.. حيث يريد البعض لها أن تخرج من التاريخ بعد أن تغادر الجغرافيا. يتحدثون عن احتمالات كثيرة ليس من بينها دولة قوية غنية.

روى لى رئيس الوزراء الليبى الراحل محمود جبريل أن هناك تصوراً غربياً يجعل ليبيا بلداً غير عربى، وذلك عبر إسقاط الدولة وفتحها كطريق استراتيجى للهجرة غير الشرعية من أفريقيا إلى أوروبا. وحيث إن أوروبا ستواصل مقاومتها لذلك، وحيث إن الجفاف والإرهاب فى وسط وغرب أفريقيا يدفعان ملايين الناس للمغادرة باتجاه البحر المتوسط بأى ثمن، فإن الطريق الوحيد المفتوح إلى البحر هو ليبيا.

وإذا ما مرّت سنوات والوضع هكذا، سيصبح الليبيون العرب أقليّة فى ليبيا، وسيصبح العنصر الأفريقى من غير أبناء ليبيا.. هو العنصر الحاكم وصاحب الأغلبية، ثم صاحب البلاد. ستكون ليبيا دولة أفريقية غير عربية.. هكذا ببساطة، وفقط بمرور الوقت.

فى صيف 2018، قدّرت صحيفة لوموند الفرنسية أعداد المهاجرين غير الشرعيين الذين ينتظرون فى ليبيا من أجل العبور إلى أوروبا بأكثر من مليون مهاجر. وتقضى خطة للاتحاد الأوروبى.. أن يتم بناء معسكرات إيواء للمهاجرين على سواحل ليبيا.. حتى تنتهى دراسة طلباتهم.. بحيث لا يعبر البحر المتوسط إلى الشاطئ الآخر.. إلّا من يتم السماح لهم.

رفض الليبيون الخطة الأوروبية، وقالوا: إن ليبيا لن تقيم أى مراكز مهاجرين على شواطئها.. وإنها قد ترفض استقبال اللاجئين الذين يتم إنقاذهم من الغرق فى مياه المتوسط.

باتَ الجنوب الليبى مصدر قلق كبيراً للبلاد.. إنّه الأكثر خطراً على الأمن القومى الليبى. إنَّ من يأتى من جهة الجنوب متشدِّدون ومهاجرون.. القادمون من القاعدة وبوكو حرام، والهاربون من الجفاف والفقر.. الذين يبحثون عن الموت، والذين يبحثون عن الحياة.

فى سبتمبر 2015، نشر مركز بروكنجز الدوحة فى قطر تقريراً بعنوان: «الليبيون أعداء أنفسهم.. فهل يكون تقسيم ليبيا أفضل حل للحفاظ عليها؟».. وهو جزء من إطار فكرى غربى.. يرى جانب منه «تقسيم ليبيا» باعتباره الحلّ،، ويرى جانبٌ ثانٍ منه «غزو ليبيا» هو الحلّ.. ويرى جانبٌ ثالث منه.. ترك الليبيين لليبيين.. ترك الشعب للهزيمة الداخلية والتآكل الذاتى. وقد نشرت دورية «فورين بوليسى» ترجيحاً لهذا التقدير فى مقالة نشرتها فى عام 2018 بعنوان: الغرب ترك ليبيا لتمزِّق نفسها بنفسها.

كانت جماعات الإسلام السياسى تتمدَّد على نحو مفزِع، وجرى استدعاء مقاتلين من دول عديدة للعمل على الأراضى الليبية. وحسب دراسة لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى عام 2018، فإنَّ ليبيا تضمّ رابع أكبر حشد من المقاتلين الأجانب فى تاريخ الجهاد العالمى.. بعد سوريا وأفغانستان والعراق.. حيث دخل البلاد أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل من (41) دولة فى (7) سنوات.

لقد استدعى وجود هذا الكمّ من المتطرفين.. إلى بدء عمليات القصف الجوى الأمريكى لمواقع فى ليبيا، بدءاً من عام 2015. وفى عام 2016 قامت واشنطن بأكثر من (500) غارة جوية على مدينة سرت. وحسب صحيفة نيويورك تايمز.. فإن الولايات المتحدة توسعت فى مناطق القصف وقامت فى مارس 2018 بأول ضربة جوية فى جنوب ليبيا. وحسب صحيفة لوموند الفرنسية، فإن فرنسا بدأت هى الأخرى عمليات عسكرية سريّة فى ليبيا عام 2016.

تقول واشنطن إن كل ضرباتها الجوية موجهة إلى الجماعتين الإرهابيتين فى ليبيا.. القاعدة وداعش.

ولكن بعض الليبيين يشكِّكون فى مصداقيّة الموقف الأمريكى.. وهو موقف يمتدّ للتشكيك فى مجمل المواقف الغربية فى ليبيا. وقد وجد هذا التيّار دعماً لموقفه، حين اعترف وزير الدولة البريطانى إليستر بيرث بأنَّهُ كانت هناك اتصالات بين بريطانيا والجماعة الإسلامية المقاتلة فى ليبيا،القاعدة، وهو ما كرَّره النائب عن حزب العمال راسل مويل: «إن وزارة الخارجية البريطانية أخبرتنى بأن المرجح أنها كانت على اتصال مع الجماعة المقاتلة.. التى قاتل منفذ هجوم مانشستر فى صفوفها».

لقد تحدثتُ فى كتابى «أمة فى خطر» عن تلك المشكلات الأربع التى تواجه ليبيا، وهى: الطاقة والمياه واللاجئون.. والإرهاب. كان النفط الهدف الكبير للجماعات المتطرفة.. وقد شهد «الهلال النفطى» شمال البلاد.. والذى يمتد على طول 200 كيلومتر، ويضم 80%من نفط ليبيا.. معاركَ لا نهائية فى طريق السيطرة عليه. وكثيراً ما سيطرت قوة، ثم نجحت قوة أخرى فى انتزاع السيطرة.. حتى أصبحت متابعة الأحداث فى الهلال النفطى أمراً صعباً.. من كثرة المعارك وتبادل المواقع وزحام الأطراف.

أصبح النفط بمثابة عقاب لليبيا.. بات واضحاً أن هدف التنظيمات المتطرفة كافة هو السيطرة على حقول وموانئ النفط. وحسب صحيفة الإندبندنت البريطانية، فإنَّ ليبيا صاحبة أكبر احتياطى من نفط فى أفريقيا، وعاشر أكبر احتياطى فى العالم.. واحتياطى ضخم من الغاز يكفى أوروبا 40 عاماً.. أصبحت دولة ملعونة بثرواتها الطبيعية.

إن معضلة المياه توازى معضلة النفط.. ذلك أن ليبيا بلدٌ جافٌّ تماماً.. ويعيش الليبيون على المياه الجوفية. وقد ساعد مشروع الرئيس القذافى «النهر الصناعى العظيم» على سدِّ احتياجات الشعب من المياه العذبة لسنوات عديدة.

يقوم مشروع النهر الصناعى على تجميع المياه الجوفية من شبكة ضخمة من الآبار.. ثم نقلها عبر أنابيب عملاقة.. وضخّها من الجنوب إلى الشمال.. وتغذية كل مدن ليبيا عبر المسارات المختلفة للنهر. وتعتمد طرابلس وبنغازى على مياه النهر الصناعى بشكل شبه كامل.

وحين قامت تنظيمات إرهابية بخطف عدد من المهندسين الأجانب العاملين فى المشروع جنوب البلاد.. سادت حالة من الهلع داخل المشروع وخارجه.. وتساءل الليبيون: هل يمكن أن يتوقف النهر الصناعى بفعل الإرهاب؟ وما العمل إذا ما توقف؟ من أين تشرب ليبيا.. وكيف يمكن أن تعيش؟

يرى بعض المختصِّين أنَّ النهر الصناعى وبغض النظر عن التهديد الإرهابى يواجه تحدياً كبيراً.. من جرّاء جفاف بعض الآبار الصغيرة، وأنَّه فى نهاية المطاف ستنفد المياه الجوفية يوماً ما.. وستصبح الأنابيب فارغة تماماً. وهو ما يتطلب البحث عن وسيلة أخرى لتوفير المياه العذبة.. وهو ما لا يمكن تحقيقه إلّا ببدء مشروعات كبرى لتحلية مياه البحر.

وسط ذلك كله.. جاء الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، ليجعل مشكلات ليبيا معضلاتٍ مستحيلة. وجاء ليطبِق عليها من الشمال، بينما يطبِق القادمون عليها من الجنوب، وليشكلا معاً معادلة بائسة لتلك البلاد الرائعة، فلا تصبح هناك دولة ولا ثروة.

فى الوقت الذى يزرع فيه «أردوغان» كلَّ أسباب اليأس، تقوم مصر بصناعة الأمل.

(عن الوطن)

التعليقات