امرأة ليست عابرة أبدًا

الشارع يكتظ بالناس والبيوت، والعربات تزأر، كان يسرع الخطى، ويمسك حقيبة بنية اللون، وعلى فمه تطوف ابتسامة واهية، جسمه كان يترنح، ويوشك أن يلتهمه الظلام.
ثلاث سنوات يمر من هذا الشارع فيلمحها من نفس المسافة، تلوح بابتسامة محايدة، ثم تختفى بين العربات والناس... لماذا لم أكلمها... لماذا لا أذهب خلفها وأمسكها من يدها وأقول لها: من أنت؟
الهواء مشحون برائحة زهور الريحان، تمنّى لو قطف بعضاً منها وأهداها لها، لتتسرب رائحته معها حينما تقربها من أنفها.
لم يدر بخاطره يوماً بأنه سيقع فى غرام امرأة تمر أمامه كأنها طيف، ولا يعرف عنها شيئاً.
تطلع بعينين شاردتين للخلاء الممتد أمامه، كانت أجسام الناس تتضاءل وتختفى فى ضباب شديد الكثافة، حينها قرر العودة إلى المنزل.
غرق فى النوم وعبق رائحتها يهاجمه.
استيقظ من نومه فى ساعة متأخرة، ارتدى ملابسه، واحتسى كوباً من الشاى، نزل إلى الشارع، أبصرها قادمة نحوه، توقف حتى مرت من أمامه، استدار ومشى من شارع آخر، فجأة أسرعت الخطى، عبرت الشارع ودلفت إلى حديقة عامة، أسرع نحوها، رآها تجلس على دكّة محاطة بالأشجار الظليلة.
اكتفت بابتسامة خفيفة جعلته يقترب منها، وضع يده اليمنى على ظهر المقعد، مرت لحظة من الزمن، بعدها تجرّأ ليقول لها: كم كنت أحلم بهذا اليوم، وبهذه اللحظة، أرجوك تكلمى، لماذا تلوذين بالصمت هكذا؟
تسمر جسدها تماما عندما باغتها بهذا السؤال.
وجد حشداً يقف أمامه صامتاً يتفرسه فى هدوء، وازدادت دهشته عندما بدأ هذا الحشد يستخدم لغة الإشارة فى التخاطب، وتوجه إليها شاب يضع سماعة فى أذنه اليمنى، فوقفت منتفضة وأخذا يتخاطبان بالإشارة، ألقى الشاب عليها نظرة قاسية جدا، اكتسى وجهها بتعبيرات غريبة، وألقت عليه نظرة متفحصة مرتابة.
كان فى دهشة كبيرة مما يحدث، اجتهد كثيرا لكى يسيطر على نفسه المرتبكة، أمسكها من يدها برفق وقال لها: هل أنت.. هل أنت بكماء؟، وأشار بيده إلى فمه... أطرقت رأسها، كان جسدها كله يرتجف، باغتته يد من الخلف، إنه رجل مسن جدا، فاجأه قائلا:
- إنها بكماء تماما يا بنى.. وهؤلاء الشباب جميعاً مثلها، وهذا الشاب الذى يقف بجانبها خطيبها ويحبها، أبكم مثلها ولكنه أصم.
نظر إليها بحنو وغضب وارتباك شديد، أما هى فكانت تختلس النظر إليه مرة تلو المرة، وفى نظرتها كثير من العطف والرقة العميقة والاطمئنان..
عن(المصري اليوم)

التعليقات