عالم فى العراء (1)

يبدو عمار على حسن ،فى مقدمة كتابه "عالم فى العراء"، كما لو كان يجود علينا ببعض تجاربه وتجارب كتاب وأدباء آخرين مع الفن والسياسة و القراءة والكتب والكتابة، لكى يفيد القارىء بما استفاده هو به من خلاصة سياحته الفكرية المتعمقة فى آراء وتجارب ومواقف كتاب وأدباء وشعراء أثرت فيه وحفرت فى ذهنه رؤى وتصورات إيجابية بشأن قضايا وظواهر اجتماعية وسياسية وأدبية ، وعلى رأس هذه القضايا الإعلام الجديد وثقافة التسامح واللغة كمدخل فلسفى وفلسفة الأبوة والأبوية.

وما يجعله كتاب يستحق القراءة هو أنه بالإضافة إلى ما سبق ذكره يتضمن مقاربات وتراجم تكشف جوانب أخرى فى شخصيات أدبية وفنية وسياسية مثل ابن رشد و نجيب محفوظ ويوسف إدريس ونجيب الريحانى،وأحمد حسنين باشا ، بالإضافة إلى رؤى نظرية فلسفية وأدبية عميقة حول أمور كثيرة منها أشكال الكتابة ومستقبلها، والنصوص ثلاثية الأبعاد، وعلاقة الرواية بالسلطة،والعناق الأبدي بين الأدب وعلم النفس، وأصناف القراءة والقراء، والرواية والتصوف،و الرواية والريف الجديد والكتابة من الخارج ورواية الذات، ومظاهر خصام المتطرفين للفنون والآداب، وأشياء أخرى مهمة.

وتحت عنوان "تويتر وأخواته ..سياسة الإعلام الجديد" يرى الكاتب أن الإعلام بمفهومه التقليدى القائم على التفكير الخطى والناقل للمعرفة فى اتجاه واحد،والذى تكاد تنعدم فيه التغذية المرتدة،لم يعد قابلا للصمود أمام الإعلام الجديد،إعلام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى،فيس بوك وتويتر وانستجرام وغيرها،وذلك لكون الأخير قائم على التأثير المتبادل ويمارس ثلاثة أمور أساسية تؤثر فى القيم والتصورات والاتجاهات،أولها:تعزيز التفكير الشبكى،وثانيها: تدعيم روابط المشاركة بين المرسل والمتلقى وإزالة الفواصل بين النخب والجمهور،وثالثها:تحرير الأذهان من خلال تعرف المتلقى على وجهات نظر ورؤى وتصورات أخرى،خاصة أن كل مواطن فى الإعلام الجديد،أصبح فى مقدوره أن يكون مواطنا صحفيا يؤثر بمحتوى أخباره وفيديوهاته ورسائله الإعلامية فى الناس بما فيهم الإعلاميون أنفسهم.

ويتوقف مستقبل الإعلام الجديد باعتباره الابن الشرعى لليبرالية بمضمونها الغربى ، وعلى الرغم من تاثيره الكبير فى الوقت الراهن،وفق رؤية الكاتب،على مستقبل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية ، أدوات للتحرر أم أدوات للسيطرة الاجتماعية والسياسية،خاصة بعد أن التفتت النظم المستبدة إلى أهميتها واستعملتها في الحرب على الحرية، وهو المستقبل الذى يمكن استشرافه ، من خلال مناقشة علاقة السياسة بالإعلام الحر، ومعرفة تأثير هذا الإعلام على قيم الديمقراطية والليبرالية، ومعرفة ما إذا كان يغذيها بعد أن نبت من رحمها أم يلتف عليها بفعل فاعلين، يتربصون بالحرية، ويضجرون من القدرة الهائلة التي تمتلكها الشعوب.

ويحاول الكاتب الإجابه علي ذلك السؤال الكبير من خلال شرح مقنع  لثلاثة عناوين، أولها :"الإعلام الجديد كثورة ناعمة"،وفيه أوضح أن هذه الثورة لها ست سمات أساسية، وثانيها:"السياسة والإعلام الحر"، وفيه تناول بالتفصيل ثلاثة مصطلحات مهمة لها صلة وطيدة بالإعلام الجديد، وثالثها:"الإعلام الجديد كابن شرعى لليبرالية"، وفيه أوضح العلاقة المتشابكة بين الإعلام الجديد وقيم وركائز الليبرالية ومدى استفادته من تلك الركائز،ورابعها:"الإعلام الجديد..أدة للتحرر أم الإكراه"، وفيه أجاب عما إذا كان هذا النوع من الإعلام  يعزز التحرر أم يشدد القيود؟

ويؤكد الكاتب أن الإعلام الجديد كثورة إعلامية واتصالية ناعمة لها ست سمات شرحها الكاتب كنوع من العصف الذهنى وكمجرد طرح أولى ينتظر التعديل أو الإضافة، وهذه السمات هى: 1- توسيع المشاركة الشعبية فى صناعة الإعلام، حيث ظاهرة المواطن الصحفى،2- تعزيز الفردية بشكل يدمج الفرد فى مجتمع افتراضى ويجعل له أصدقاء من مختلف بلدان العالم،ويؤثر فى المستقبل على هوياتهم وانتماءاتهم،3- إعطاء دفعة قوية لاقتصادات المعرفة لاتقل عن الدور الحيوى الذى لعبه النفط فى الثورة الصناعية،4-  وظهور تحدى للسلطة السياسية من خلال منازعتها فى امتلاك وسائل الإعلام والرد عليها وكسر أحادية وقدسية أهداف إعلامها القديم،5- الإفراط في استخدام الإعلام كركيزة أساسية في السجال العقائدي الذي يدور في العالم أجمع، لاسيما بعد أن صار الدين يشكل عاملا بارزا من عوامل الصراع الدولي الراهن، بفعل إذكاء الولايات المتحدة لمسار "الإسلاموفوبيا"، 6- ضحايا الإعلام الجديد والقوى المضادة له.

وعن مصير الإعلام القديم أو التقليدى ، يرى الكاتب أن الوسائط الجديدة ليس بوسعها أن تهيل التراب على القديم تماما، ويرجع  ذلك إلى أن نظريات التحديث تنبىء بأن القديم لايموت كله، وتؤكد فى الوقت نفسه أن بعضه أجدى للناس من أشياء جديدة، ويستدل على صدق ما يقوله بأن الصحف الورقية لم تختفى بحلول عام 2018 ، كما توقع بيل جيتس، وبأن الكتاب المطبوع لم يختفى على وقع شيوع القراءة على الإنترنت، كما ظن البعض، حيث يتم طبع كتب إلكترونية على شاكلة الكتاب الورقى، منها مازاد توزيعه عن 90 مليون نسخة كرواية "هارى بورتر".

ويوضح الكاتب أن التوقعات باختفاء الإعلام التقليدى ترجع إلى الخلط الخاطىء بين الآلة والسلعة، قائلا:"الآلة المتطورة تنسخ أختها المتخلفة أو تلغيها كلية، لكن السلع الجديدة لا تلغي القديمة، إذ لا يزال الناس يستهلكون سلعا كانت البشرية تستهلكها منذ آلاف السنين. والجريدة وكذلك الكتاب هما من صنف السلع، وليسا من طرز الآلات، ومن ثم فهما باقيان معنا سنين طويلة، لكن عليهما التكيف مع معطيات ومتطلبات مجتمع المعرفة، لاسيما في مجال القابلية للحمل، والمحتوى، والعائد الدائم."

وتحت عنوان"السياسة والإعلام الحر" ، يرى الكاتب أن  السياسة والإعلام يتبادلان المنافع فى النظم الديمقراطية، ويتصارعان فى النظم المستبدة والشمولية بسبب توجيه السلطة للإعلام، ولكن الصراع لايكون فى شكل معادلة صفرية، ويكون نسبى ومؤقت وسطحى، وذلك لرغبة الطرفين فى الوصول لنقطة توازن وتبادل مصالح، يعززها نزوع الطرفين للدفاع عن المصالح العليا للدولة، ويؤكد أن علاقة الإعلام بالسياسة أعمق من الوقوف عند حد توظيف السلطة لوسائط الاتصال في خدمة مصالحه، فهى لها دور في تنمية الثقافة السياسية، عبر ثلاثة مستويات ، معرفى وعاطفى وسلوكى.

ولم يحبذ الكاتب الاستقلال الإعلامى الذي يجعل الإعلام وسيلة جافة محايدة باردة بلا عواطف مشبوبة، ويرى أن الإعلام الليبرالى أو الحر هو الأكثر قدرة ومنعة،ويشرح بأسلوب علمى مقنع كيف يؤثر هذا الإعلام الأجنبى فى المجتمعات التى تعانى دولها من حروب و صراعات داخلية، عرقية وطائفية،ويلمح إلى أن الإعلام الجديد فى الدول النامية يوازى الإعلام الحر فى الدول المتقدمة،فهذا الإعلام الجديد يتماهى مع ثلاثة مصطلحات إعلامية مهمة، هى الديمقراطية الإعلامية ووسائل الإعلام الديمقراطية والصحافة الديمقراطية، فالأول يصل فيه البث لكل الناس ،ويشارك فيه الجمهور وتتعزز قيم الديمقراطية،"وقد وجد أصحاب هذا الاتجاه في الشبكة العنكبوتية العالمية "ويب" وسيلة لتحقيق ما يصبون إليه، حيث صارت منبر من لا منبر له، وفتحت أبوابا واسعة لمشاركة الناس على اختلاف توجهاتهم، لاسيما مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي الرقمية، التي أصبحت صوت المحجوبين في وسائل الإعلام الرسمية في الدول غير الديمقراطية.

التعليقات