كيف يموت مَن لم يعشق!

يتصور البعض أن الحب ولىَ مع ما يطلقون عليه الزمن الجميل. يظن الناس أن طوفان المادية أغرق كل شىء: الرومانسية، الرقة، والمشاعر. يعتقدون أن عصر الفيمتو ثانية، والفضاءات الافتراضية، والخدمات التقنية زلزل كل قيمة إنسانية حولنا.

يقول صلاح عبدالصبور قبل خمسين عاما «هذا زمن الحق الضائع»، وأوافقه أحيانا. وأتفهم قول أبى العتاهية «وإنك يا زمان لذى صروف/ وإنك يا زمان لذى انقلاب»، وأتفق كثيرا مع قول أندريه جيد «مع مرور الزمن يتخلى المرء عن محبة الناس.. يتوقف عن تبديد العاطفة ويصبح أكثر حذرًا وأشد انتقائية».

لكننى رغم كل هذا أصر وأؤكد أن الحب لم يتلاشَ، وأن قصص الغرام باقية، وبانية، وستظل مبهجة للحياة الدنيا.

يُغير الحب خرائط الحياة، يرقق النظرات تجاه الآخرين، يدفع الإنسان لبذل الجهد، نبذ الصراع، ومحبة السلام. يحفز البشر على النبل والرضا، والدأب، والتراحم والتقارب. لا تموت الرومانسية إلا بفناء الإنسانية، فالتقدم ليس خصما منها، والتطور والسرعة الحاكمة للحياة لا تعنى أبدا أن نوصد قلوبنا ونتحول لآلات صماء.

بالطبع، فإن لكل جيل أدواته وسبله فى الرومانسية، وربما كان جيلى أميل للخطابات المكتوبة، وشرائط الكاسيت المهداة، وتطور الأمر فيما بعد للتهادى بالروايات الجميلة ودواوين الشعر الرقيقة، ثم جاء العالم الافتراضى باللايكات والقلوب والغمزات الإلكترونية.

لا يمكن أن تبقى مسيرة البشرية دون حب، فهو بصمة السعادة الحقيقية فى رحلتنا العابرة على الأرض. من هنا سعدت كثيرا أن يُجدد لنا المبدع والمثقف الموهوب محمود عبدالشكور تعلقنا بالرومانسية فى زمن الصخب والضجيج مقدما لنا قبل أيام أول رواية له بعنوان بديع هو «حبيبة» ليُعيد لفت أنظارنا إلى حكايات الحب ويجدد ثقتنا فى قيمة الرومانسية.

وكان من اللافت أن يتزامن ذلك مع كتاب رقيق ولذيذ للصديق أيمن الحكيم صدر مؤخرا بعنوان «غرام المبدعين» قدم فيه حكايات حب خالدة وعظيمة لمبدعين كثر مثل نجيب محفوظ، يوسف إدريس، محمد المخزنجى، صبرى موسى، إبراهيم عبدالمجيد. وسبق وأهدانى «الحكيم» قبل أكثر من عام كتابا بعنوان «غرام المشايخ» استعرض فيه قصص غرام مشايخ دين مثل المنشاوى، محمد رفعت، أمين الخولى وغيرهم.

ويبقى كثير من قصص الحب للفنانين محل حكى وتكرار جيلا بعد جيل، حتى أننا مازلنا ننفعل ونتأثر، وربما نبكى ونحن نكرر مشاهدة فيلم «حبيبى دائما» للرائعين نور الشريف وبوسى، والذى كان يعكس بصدق حبهما الحقيقى.

ومازالت حكاية غرام بليغ ووردة نموذجا لافتا يدفع أكثر من روائى وكاتب أن يلهث خلفه، وحسبنا أن نشير إلى الرواية الفاتنة التى خطها قبل بضعة أعوام طلال فيصل بعنوان «بليغ».

وقبل أيام وصلنى كتاب شيق خطه زميل شاب فى خطواته المبكرة على بلاط صاحبة الجلالة هو حمدين حجاج بعنوان «فايزة وسلطان» مقدما قصة الحب بين الجميلين المطربة اللبنانية فايزة أحمد، والموسيقار المصرى محمد سلطان.

ولم يكن الأمر مقصورا على هؤلاء، فهناك أيضا حكاية كامل الشناوى ونجاة، والقصيدة الخالدة التى ولدت على إثر ذلك وحملت عنوان «لا تكذبي»، وما دار وظل يدور من تساؤلات عمَن كان يقصده «الشناوي» عند قوله «رأيتكما معا». وأتذكر أن المهندس صلاح دياب حكى لى يوما أن غريم الشاعر كان صديقه المقرب يوسف إدريس، غير أن صديقى المثقف النابه سيد محمود يصر أنه محمود درويش.

وأتذكر أننى سألت أحمد فؤاد نجم يوما ما عن أكثر بيت لشاعر عربى كان يتمنى أن يكون كاتبه فقال لى «وعذلت أهل العشق حتى ذقته/ فعجبت كيف يموت مَن لم يعشقُ» لأبى الطيب المتنبى.

والله أعلم.

"عن الوفد"

التعليقات