مايكل عطية رئيساً للبنان

مقدّمة لا بدّ منها

اللبنانيون مواطنون أقوياء في وطن ضعيف، مهارات فرديّة هائلة ونتائج كلّيّة صادِمة، نخبة ماهرة تنافس في كل شيء، وسلطة كاملة فشلت في كل شيء!

البلد الذي أنجب أسطورة علم الرياضيات مايكل عطية لم يعد قادراً على الجمع والطرح، ولا بإمكانه التمييز بين صناعة الفوضى وجدول الحساب.

تعيش النخبة اللبنانية في المستقبل، وتعيش السلطة في الماضي.. بعض السلطة يعيش في الألفيّة الأولى، وبعضها الآخر تعطّلت بهم آلة الزمن، وضاعت منهم خارطة الطريق، فلا يعرفون ماضياً من حاضِر، ولا أضغاث الأحلام من حقائق الحياة.

يتمدّد لبنان على سرير العولمة نصف نائم، يفتح العينيْن دون منتصف السّواد، لكنّه لا يزال يدرك ويرى، فالبلد الرائع الذي لم يعد قادراً على الحركة، لم يفقد حالة الوعي قطّ.

كان لبنان صانعاً أساسيّاً لعصر اليقظة العربيّ، وكان أداة تنبيهٍ ثقافيّةً كبرى، يُسمع صوتها في قارّتيْن من المحيط إلى الخليج، لكنّه بات يحتاج إلى مَن يُوقظه، ومَن يُلقي بغرفة نومه إلى قاع المحيط.

بيروت - الإسكندريّة – لندن

في عام 2019، كانت جائحة كورونا تستعدّ كأنّها إعصار يضع خطّةً للدمار وسط ظلمات البحر. وفي ذلك العام أيضاً كان لبنان يتّجه نحو اللاطريق، حيث جرى إغلاق جميع المخارج واحداً وراء آخر. وفي العام ذاته رحل أكبر عقل لبنانيّ على مستوى العالم، كأنّه يريد أن يقول: لا أريد أن أرى، لا أريد أن أعرف.

في عام 1929، ولد عالم الرياضيات ذو الأصل اللبناني البروفيسور مايكل عطية، وفي عامه التسعين غادر العالم من دون أن يستفيد لبنان منه نصف معادلة، أو شطراً في مسألة.

كنتُ قد سمعت للمرّة الأولى عن البروفيسور عطية من الدكتور أحمد زويل، الذي قال لي إنّه لبنانيّ الأصل، وهو فخر العرب في ذلك العلم المعقّد، علم الرياضيات.

عاش البروفيسور مايكل شطراً من حياته في السودان ومصر، حيث عاش طفلاً مع والده الطبيب في الخرطوم، ودرس فيها عدّة سنوات، وفي مصر تلقّى أغلب تعليمه ما قبل الجامعيّ، حتّى نال شهادة الثانويّة العامّة من مدرسة "كليّة فيكتوريا" بالإسكندريّة.

إنّها المدرسة الأرستقراطيّة الشهيرة، التي تخرّج منها ملوك ورؤساء ومشاهير. وقد كان الملك حسين بن طلال عاهل الأردن، والملك خوان كارلوس عاهل إسبانيا، وملك بلغاريا السابق، ووليّ عهد العراق، والمفكّر الفلسطينيّ الأشهر إدوارد سعيد، والفنّان المصريّ العالميّ عمر الشريف، من أبرز خرّيجيها.

انتقل البروفيسور عطية من مصر إلى بريطانيا، حيث صنع تاريخاً علميّاً مذهلاً في أوروبا والولايات المتحدة. فقد عمل أستاذاً في أكبر جامعات الغرب من كامبريدج إلى أكسفورد وجامعة برنستون.

نوبل الرياضيّات وأطباق التبّولة

كان البروفيسور عطية، وعلى الرغم من إقامته في بريطانيا أغلب حياته، متأثّراً بنمط الحياة المصرية واللبنانية، وكان يحبّ أطباق الكُشَري المصرية، ولا يخلو منزله من أطباق التبّولة اللبنانية، وكان يشعر بالحنين لأطباق "الويكا" السودانيّة، وكانت مطاعم لندن العولميّة فرصة جيّدة لتناول الأكلات الثلاث فوق موائدها.

حصل البروفيسور عطية على ما لم يحصل عليه عالم عربيّ في مجال الرياضيات، وحاز أكبر جوائز العالم، وعلى رأسها جائزة "ميدالية فيلدز" التي تُمنَح لأعظم علماء الرياضيات الشباب على مستوى العالم، وهي تُعطى للفائزين كلّ أربع سنوات. ثمّ حاز جائزة "آبيل" التي تمنحها الجمعيّة النرويجيّة لعلم الرياضيات، تكريماً للعالم النرويجي الكبير "نيلز آبيل"، وتُسمّى نوبل الرياضيات، وتعادل قيمتها الماديّة جائزة نوبل.

نال البروفيسور عطية لقب "سير" في بريطانيا، وكان أوّل مدير لمعهد إسحق نيوتن للعلوم الرياضيّة في جامعة كامبريدج، ثمّ حاز تكريمات عربية، أبرزها جائزة الملك فيصل.

نظريّات يصعب فهمها

قدّم البروفيسور مايكل عطية العديد من النظريّات العلميّة، وشارك علماء آخرين في نظريّات شكّلت جزءاً مهمّاً من تاريخ علم الرياضيات المعاصر.

تقع أعمال مايكل عطية في سبعة مجلدات، كلّها صعبة جدّاً، ويكاد يكون مستحيلاً على غير المتخصّصين فهمها. يكفي مثلاً أن تقرأ عناوين بعضٍ من هذه الأعمال: "النظرية الطوبوغرافية"، "مشكلة اللامتغيّر"، "متفردات الحقول الإشعاعيّة"، "المعادلات التفاضليّة الجزئيّة الزائدية"، "نظريات حقول الكمّ الطوبولوجية".

إنّ الحضارة المعاصرة هي نتاج أعمال عظيمة في مجالات عديدة، لكن إذا كان من ثنائيّ يقف وراء العصر الحديث بكامله، فهما الفيزياء والرياضيات. ونظراً إلى تداخل علم الرياضيات في نطاقات علميّة لا حصر لها، فإنّ علم الرياضيات يبدو كأنّه العلم الأوّل في صناعة المعرفة المعاصرة.

لقد أسّست دول، مثل روسيا، مجالس علميّة وطنيّة عليا برئاسة الرئيس تحمل اسم "مجلس الرياضيات"، وراحت دول عديدة تعطي المزايا والمنح للتلاميذ الذين يُقبلون على دراسة ذلك العلم القائد.

لبنان.. المكعّبات الملتوية

كان أوّل بحث تقدّم به البروفيسور مايكل عطية يحمل عنوان "مذكّرة قصيرة حول المكعّبات الملتوية". وربّما يحتاج لبنان اليوم إلى عالم رياضيات لا عالم سياسة، ليكتب لنا "مذكّرة جديدة حول المكعّبات الملتوية في الدولة اللبنانية".

يحتاج المرء من خارج لبنان إلى وقت طويل ليفهم أبعاد هذه المكعّبات، والتواءاتها، ويحتاج المرء داخل لبنان إلى وقت أطول.

ثمّة أزمة وقود في لبنان، وهناك أزمة غذاء، وهناك أيضاً أزمة أمن، وبجوار ذلك هناك التحقيقات بشأن حادث مرفأ بيروت، وهناك تدهور العلاقات مع المشرق العربي والعالم، وهناك تدخّل خارجي في الشأن الداخلي. هذه كلّها قضايا واضحة، وهي كلّها يمكن إدارتها إدارة علميّة أيضاً.

يمكن تمييز المبتدأ من الخبر، والصواب من الخطأ. يمكن أيضاً تمييز مفهوم الدولة من مفهوم "العِزبة" (أي المزرعة)، ومفهوم الاستقلال من مفهوم التبعيّة. ويمكن تمييز الخطاب العقليّ من الخطاب العاطفيّ، والسياسة الواقعيّة من الخطابة الشعبويّة. لكنّ هذه البديهيّات جميعها، المتمثّلة في إقامة دولة مستقلّة قادرة على حماية كلّ مواطنيها من الجوع والخوف، قد تحوّلت بفعل عبقريّة السلطة إلى مكعّبات ملتوية، فلا نعرف بداية من نهاية، ولا ضلعاً من آخر.

يحتاج لبنان إلى سلطة تفهم في علم الرياضيات قبل أن تفهم في علوم الكراسي. لو كان مايكل عطية على قيد الحياة، ولو أنّه ترشّح للرئاسة، وكان لي صوت، لأعطيتُ صوتي له، ولكنت مطمئنّاً إلى ما سيفعل.

لقد رحل البروفيسور عطية، ولم يرحل لبنان. رحل العالِم ولم يرحل المنهج. ولا يزال في نخبة بلاد الأرز لبنانيّون يمكنهم ضبط المكعّبات الملتوية، ووضع لبنان على الطريق الصحيح، لكنّ الذين يحكمون لا يعلمون، والذين يعلمون لا يحكمون.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً لرئيس الجمهورية المصرية السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعتيْ طنطا ومطروح، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

التعليقات