هواجس "مفترق العمر" !

إسمحوا لي أن أفكر معكم بصوت عال، وأن أشارككم بما يشغل بالي و بال الآلاف غيري ممن إقتربوا من عمري أو تجاوزوه.

أنا إقتربت من سن ال٦٠ والمعروف بأنه "سن المعاش" رغم أنه ليس شرطا ولكن جري العرف أنه هكذا. والحمد لله نشأت في عائلة متيسرة مادياً وفرت لي أفضل تعليم مدرسي في بلدي وأفضل تعليم جامعي في الولايات المتحدة، وعدت بعد دراستي لأقضي مدة خدمتي العسكرية ١٥ شهرا في سلاح المدرعات، ثم بدأت أمارس الحياة العملية وإجتهدت وعملت في عدة مجالات حتى استقر بي الحال في عملي الحالي، وعلى مدى ٤٠ عاماً من العمل الدؤوب استطعت بدوري أن أوفر لأولادي أفضل تعليم مدرسي وجامعي ولكن الفارق أنه عند الانتهاء من دراستهم لم يفضلوا، كما فعلت أنا، العودة إلى مصر لأسباب عديدة منها المناخ العام المنغلق إجتماعيا، وفرص العمل المحدودة، وعدم وجود آليات تيسر للشباب الإنطلاق ذاتيا بدون تدخل الأهل علاوة على انتشار وتوغل العنف الفكري والديني في المجتمع والعيش في جزر منعزلة، ففضل أبنائي البحث عن مستقبلهم في دول أخرى أكثر حرية وانفتاحا بدون خوف من المستقبل حيث الكفاءة هي المعيار الوحيد للنجاح.

وبعد هذه المقدمة يبدأ السؤال: ماذا نفعل أنا وزوجتي بعد أن إجتهدنا و أنجبنا وعملنا وعلمنا أولادنا ووفرنا مدخرات حتى نتمكن من مواجهة حياة ما بعد العمل الشاق بدون مساندة من الأبناء، علما بأن نظام المعاشات والتأمينات في الدولة المصرية لا يوفر للمواطن أي حماية علاجية أو حياة كريمة ومحترمة بعد المعاش؟!

والواقع أننا سنكبر في السن وأولادنا بعيدين عنا، وهذا الإحساس المرير مؤلم لأي أب وأم حيث تشعر أن وطنك يطرد أبنائك مع آلاف الشباب غيرهم ويجعلهم عرضة للإغتراب والأهل عرضة للإكتئاب!.

وهنا يساورني الهاجس: ماذا - لا قدر الله - لو رحل الأب أو الأم بعيدا عن أبنائهم في غربة تبعد ساعات طويلة وآلاف الأميال عن الوطن؟! كيف يعيش الإنسان وحيدا؟ هل أصبح كل منا مجبرا على الإنتقال للعيش بالقرب من أبناءه؟! أو هل نفكر في السفر لدولة يتوفر فيها الحد الأدنى من العيش الكريم؟!

الهاجس الآخر والأخطر: يتعلق بالإجراءات المالية الجديدة في البلد - والتي قطعا ستزداد صعوبة مع الوقت -، هل مدخراتنا آمنة؟.. لقد إجتهدنا وعملنا بجد طوال عمرنا لضمان إمكانية العلاج والعيش الكريم و السفر لزيارة الأبناء والاستمتاع أخيرا بسنوات معاشنا.. كيف يتحقق هذا ومدخراتنا تتضائل بسبب إنهيار العملة المحلية؟ وكيف نسافر ونزور أبنائنا ومدخراتنا حبيسة سياسات تقشفية غير متوقعة، هل سنضطر إلى تأجيل حقنا في إحالة أنفسنا إلى المعاش والراحة بعد سنوات التعب؟ وهل سنضطر إلى تخفيض مستوى معيشتنا الذي إعتدنا عليه؟

أتحدث معكم بصراحة فيما يفكر فيه الآلاف مثلي،.. لا أشكو، ولكن أتساءل عن مصير الإنسان في بلده وعن حقه في الحياة الآمنة في آخر سنوات عمره؟

وأعرف أن هذه سنة الحياة.. يوم عسل و يوم بصل و لكن الصعوبة هي أن يأتي البصل عندما لا تبقى لك أي فرصة لمواجهة الموقف أو لإعادة ترتيب أوراقك، ربما لو كنت في الـ 30 من عمري، كنت أدركت حينها أن المستقبل ليس هنا، ليس في مصر.. ليس في بلدي التي عشت فيها أجمل سنوات طفولتي وشبابي!.

أكاد أجزم أن هذا الهاجس المؤلم يراود الكثيرين الذين يرددون مثلي بأن "الباقي أقل من اللي راح"، ربما بدرجات متفاوته بين من عمل حسابه لهذا اليوم وبين من يعيش اليوم بيومه!.

ومن الصعب أن تصل إلى مفترق العمر وأن يساورك الشك في أن بلدك تستطيع أن تحميك بل يمكن أن تقرر في أي لحظة أن تفرغ جيبك وتجردك من مدخراتك تدريجيا مرة بزيادة الضرائب ومرة أخرى بفرض رسوم جديدة على أي شيء!

صعب أن تصل إلى مفترق العمر، لتدرك أنك تنتمي لدولة لم تجتهد كما اجتهدت، ولم تنتج كما أنتجت ولم تعلم أبنائها كما فعلت ولم تحرص على رعاية شعبها ولم تشجعه على الإدخار والمبادرات الفردية وعلى الإبداع وعلى حق التفكير وعلى إحترام قيمة العمل.

صعب أن تصل الي هذا المفترق، لتدرك أن الخيبة الثقيلة للدولة على مدار ٦٠ عاما ستجبرك على العودة إلى المربع صفر.. مرة أخرى!.

صعب وأنت في مفترق العمر.. أن تجد نفسك في مفترق الطريق!!.

التعليقات