«ذاك بما أعجفتم أولادها».. عن مصر الضيعة
ولهذه المقولة حكاية، ونبدأها أولًا بتعريف «أعجف»: ويعنى أضمر أو أضعف أو أهزل «وبما أعجفتم أهلها»، أى وبما أضعفتم أهلها.. والحكاية كلها تدور عن مصر المحروسة، ضيعة كل الخلفاء والأمراء والولاة والطغاة والمحتلين، وهى «ضايعة أو ضائعة» أهلها وأولادها. «والضيعة» فى معجم «الجامع» تعنى الأرض المغلة المثمرة المنتجة وافرة الثمار والغلال الغنية الثرية وارفة الظلال الرابحة المربحة.
أما «الضايعة أو الضائعة»- ونطقهما واحد «عند العامة»- فهى الضائعة المفقودة الشاردة المشردة الضالة المضلة والخاسرة - ولكل منهما وجهة هو موليها - فكانت هذه الضيعة الخصيبة عطية وهدايا الخلفاء للولاة، ومنحة ومكافأة على منزلة الطاعات والولاءات وما يجمعونه عنوة من أموال ومن الجوارى الحسان.. وكانت عند العامة: التائهة التى لم يستدل عليها، البخيلة التى نضبت مؤنتها، الشقية البائسة المحرومة التى خارت وهرمت من كثرة الشقاء، تطعم الجميع ولا تطعم أبناءها، وتشبع الجميع ولا يشبع أولادها، وتغنى الجميع ولا يفارق أهلها الفقر.
تولاها عمرو بن العاص مرتين، الأولى فى عهد عمر بن الخطاب وعزله عثمان بن عفان، والثانية فى عهد معاوية بن أبى سفيان فى صفقة تاريخية ليس لها مثيل، أوقفها وخصصها ضيعة خاصة له ولأولاده من بعده، ومُلكا فريدًا بخراجها وجزيتها وعشورها وضرائب الرؤوس بأنواعها، لا يشاركهم فى أموالها أحد، وكأن أمر الضيعة أو الضائعة ليس بيد أبنائها، تنتقل من يد محتل إلى غاصب إلى غازٍ إلى ثائر وإلى ظالم.
تولى عمرو بن العاص أمر الضيعة أربعة أعوام فى عهد عمر بن الخطاب «وهذه لها حكاية موجعة»، وعزله عثمان حين تولى الخلافة وعيّنَ مكانه عبد الله بن أبى السرح، وهو أخو عثمان من الرضاعة، ومهدر الدم من النبى «ولها أيضا حكاية»، ولم يكن السبب فى العزل ضعف الخراج الذى يجمعه عمرو فقط «أربعة عشر مليون دينار» وزادها بن أبى السرح أربعة أضعاف، بل كان ردًا للجميل.
حين مشى «ابن السرح» بين الناس مؤيدا له رافضا خلافة على، فلما أناخت له عينه على ضيعتنا وشمّر صاحبنا عن ساعديه يجمع الأموال من أفواه الغلابة والمقهورين ويضاعف الخراج، ليحيا تنابلة السلطان فى المدينة ويزيد الأثرياء ثراءً على ثراء «وهنا حكاية العنوان»، لما سخر الخليفة عثمان من عمرو وعايره بزيادة خراج أخيه على خراجه وقال «إن اللقاح بمصر قد درت ألبانها»، رد عليه عمرو يكشف عن الظلم فى جمع الخراج، وقال: «ذاك بما أعجفتم أهلها».. وأسرها عمرو فى نفسه، ولم نسمع له حِسًّا ولا خبرًا حين تسور الثوار أسوار قصر الخليفة عثمان لقتله وقال الكثيرون «إن عمرو كانت له يد فى ثورة المصريين وتأليبهم على الخليفة وقتله».
وتعالوا إلى حكاية توليه ضيعتنا الثانية.. لما ولاه معاوية أمر الضيعة، كانت صفقة بين الطرفين، يقابلها أن يقف هو وأولاده وعشيرته مع معاوية ضد على، أما عن خداعه لأبى موسى الأشعرى فى واقعة التحكيم فكان نصف المهمة، وقتاله هو وأولاده فى صفوف معاوية كان النصف الآخر، وأوقفها معاوية له ولأولاده من بعده، يجمع منها ما يروقه ويقدر عليه، واشترط عليه عمرو ألا يشاركه الخليفة خراجها (هذا ما أعطى معاوية بن أبى سفيان، عمرو بن العاص، أعطاه أهلها، فهم له حياته ولا تنقص طاعته شرطا).
وهكذا كانت ضيعتنا وأجدادنا وديارنا موقوفة لعمرو عزبة أو ميراثا أو تركة أو تكية أو عقارا أو ربحها مولانا على مائدة القمار.. المهم فى عام من الأعوام، احتاج معاوية «واتزنق» فى رواتب الجند حين جف الخراج، وعزّت جباية البلاد الموطوءة، وأرسل معاوية إلى عمرو يطلب منه المدد والغوث وبعضًا من خراج الضيعة (فأما بعد، فإن سؤال أهل الحجاز وزوار أهل العراق قد كثر علىَّ، وليس عندى من فضل من أعطيات الجنود، فأعنّى بخراج مصر هذه السنة)، فلم يفعل عمرو ما فعله مع عمر بن الخطاب حين أغاث أهل المدينة من الجوع وأرسل له قوافل المدد، أولها عند قصره وآخرها عند باب الخليفة فى المدينة وكان فضل مصر عظيما.
أما عن رد عمرو على معاوية فكان شعرا «معاوى إن تركك نفس شحيحة، فما ورثتنى مصر أمى ولا أبى.. وما نلتها عفوا ولكن شرطتها، وقد دارت الحرب العوان على قطب.. ولولا دفاعى الأشعرى وصحبه، لا لقيتها ترغو كراغية السقب»- يعنى بالعربى إنت أوقفتها لى وشرطتها عن مقابل، ومفيش فلوس- فأسرها معاوية فى نفسه واختزنها لعمرو، ولما مات عمرو صادر أمواله وضياعه وقصوره كلها، وقال: «نحن نأخذه بما فيه من سحت وظلم».. وعن ثروة بن العاص التى جمعها من مصر، فحدث دون ملل أو حرج.
أما عن مصرنا، فلها الله منا ولنا الله منها، فما فلحت وما فلحنا، وهى لمن غلبَ حتى لو كان من أهلها ومن ترابها. ارفع يا رب عنها ظلم أبنائها وجفاء قلوبهم وظلم كل من غلب.
«الدولة المدنية هى الحل»