العلامة الفارقة في مصر الحديثة
سيبقى تاريخا 30 يونيو و3 يوليو 2013 علامة فارقة فى تاريخ مصر والمنطقة العربية والعالم. وسيصبح التاريخان مثار دراسة وتحليل لكل مهتم بحركات الإسلام السياسى، سواء المحبون والداعمون للخلطة الجهنمية بين الدين والسياسة، أو متخصصو الضحك على الذقون بالذقون، أو أولئك الذين فوجئوا بأن القط الصغير الوديع الذى تمت تربيته فى الحديقة الخلفية قد تحول وحشاً كاسراً استولى على البيت وما فيه ومن فيه، أو الباحثون فى التاريخ من الراغبين فى توثيق ما يفعله الإصرار أو السماح بالزج بالدين فى السياسة.هذان التاريخان هما العلامة الفارقة فى تاريخ مصر الحديث. وهما الأساسات التى سيتحدد من منطلقها مصير المنطقة العربية برمتها وليس مصر فقط. وهما أيضاً علامات الطريق التى تعنى الكثير للدول التى أصابتها أو يُتوقع أن تصيبها آفة الخلطة الجهنمية، خلطة الدين (أى دين) بالسياسة. والمقصود بالسياسة هنا ليس الانتخابات والأحزاب والناخبين ونظام الحكم والحكومة فقط، ولكن السياسة هى المعيشة وتفاصيل الحياة اليومية فى أى دولة.والدول نوعان: مدنية على اختلاف أنظمة الحكم الجيد والسيئ، الطيب والشرير، الرأسمالى والاشتراكى، الديمقراطى والديكتاتورى... إلخ، والدينية التى يكون فيها رجل الدين هو رجل السياسة، يحدد للمحكومين كيف ينتخبون وكيف يصلون، كما أنه يحدد من منهم سيدخل الجنة، ومن منهم سيُشوى فى نار جهنم. صحيح أن هناك نوعاً لا هو بالمدنى تماماً ولا هو بالدينى كلية، لكن هذا المزج حيث الدولة بين بينين لا تبقى على حالها المتأرجح طويلاً، وسرعان ما تصبح إما مدنية خالصة أو دينية شاملة.وأعود إلى التاريخين المفصليين وأقول إن ما جرى فيهما لم يكن مطالبة بإسقاط حكم الجماعة المجرمة، خريجة كلية التجارة بالدين قسم نصب واحتيال بشعار «الإسلام هو الحل»، بل كان إزاحة مصرية شعبية جماعية لركام وشوائب ما يزيد على نصف قرن من التغييب، واستلاب الهوية المصرية، وهز ثقة المصرى فى حضارته وأصله وتفرده وتميزه. كانت صحوة مهيبة لم يتوقعها كثيرون، لا سيما بعد عامين من خلط الحابل بالنابل، واختلاط الأدرينالين الثورى بالهيستامين الدينى بالإنزيمات الوطنية الواقعة فى حيرة.حيرة المصريين التى استيقظوا عليها بعد أقل من عام من حكم «الناس بتوع ربنا» الذين روّج أو اعتقد أو تمنى البعض أن «يراعوا ربنا فينا» وغيرها من العبارات التى تمزج الفلكلور الشعبى بعنصر البركة المصرى بقواعد العلوم السياسية فى خلطة من شأنها أن «تلبّس أجدعها شعب فى أقرب حائط» كانت حيرة رهيبة. لكن نحمد الله كثيراً على أن الحيرة هذه المرة -رغم فداحتها- لم تؤخر القاعدة العريضة من المصريين فى اتخاذ القرار المصيرى.«الشعب يريد إسقاط الإخوان» و«أيوه أنا باهتف ضد المرشد» وغيرهما من هتافات رددها المصريون والمصريات من مختلف الأعمار فى شوارع مصر وميادينها فى مشاهد وتفاصيل تاريخية فى مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات. والهتافات دالة، ولا مجال للرياء أو الضبابية أو المداهنة أو المجاملة فيها. وحين تهتف نساء تعدين سن الـ60 والـ70 مطالبات بإسقاط نظام الإخوان المجرم دون أن يفكرن فى سلامتهن الشخصية فى الشوارع والميادين، وذلك فى الوقت الذى كانت قيادات الإخوان تعلنها صريحة أن «من يرش (محمد) مرسى بالدم نرشه بالنار» وأن «ما يجرى فى سيناء (من عمليات إرهابية تريق دماء الأبرياء من رجال الجيش والشرطة والمواطنين) سيتوقف فوراً ما أن يعود مرسى إلى القصر»، فإن هذا يعنى أن قاعدة عريضة من المصريات والمصريين لم تتنازل عن هويتها، وأنها نجت من عمليات غسل الأدمغة الممنهجة والمنظمة التى اتبعها الإخوان فى مدن وقرى مصر على مدار عقود.الإرادة الشعبية الواضحة والرغبة المصرية الأكيدة فى تخليص البلاد والعباد من قبضة الجماعة وأبناء عمومتها من جماعات الاتجار بالدم والدين ستظل مثار بحث وتحليل لعقود طويلة مقبلة. وتدخُّل الجيش المصرى العظيم - الذى هو عصب المصريين ودرعهم الحامى وحائط الصد الأول والأخير- عصى على الفهم لدى كثيرين، أو ربما هو اختيار بعدم فهم لأسباب ونوايا سياسية واقتصادية واستراتيجية إقليمية ودولية.نحتفل ونحتفى هذه الأيام بقدرة المصريين على تخليص أنفسهم بأنفسهم. ونتذكر كل من ضحى بنفسه من أجل نجاح المهمة، بدءاً ممن فقدوا حياتهم مروراً بمن تعرضوا لاغتيالات معنوية منظمة وممنهجة وانتهاء بالقاعدة العريضة من الشعب باختلاف فئاتها وطبقاتها.لكن علينا أن نذكّر أنفسنا كذلك بأن إزالة الفرع الفاسد لا تعنى بالضرورة أن المرض لن يعود. الأمر يحتاج مراجعة دائمة ومسحاً دورياً. متخصصو الخلطة الجهنمية -خلطة الدين بالسياسة- لديهم القدرة على النفاذ من أصغر الجحور والتسلل من حيث لا نحتسب. الرئيس السيسى طالب عشرات المرات بتجديد وتحديث وتطهير الخطاب الدينى، وهو المطلب الذى يمكن اعتباره «شهادة ضمان» نجاح واستمرارية «30 يونيو».