هل ننغلق وننعم بالفقر

طبقا لما أورده وزير المالية في مشروع الموازنة عن السنة المالية 2014/2015 والذي لم يتم الإفصاح عن حسابه الختامي حتى الأن، فقد بلغت مخصصات الاستثمارات الممولة من الخزانة نحو 45 مليار جنيه مقابل 34،4 مليار جنيه عام 2013/2014. وبغض النظر عما سيتم الإفصاح عنه كمبالغ فعلية استثمرتها الدولة، فإنه طبقا لا راء العديد من الخبراء الاقتصاديين فمصر تحتاج إلى اجمالي استثمارات سنوية في حدود 300 مليار جنيه أي عشرة أضعاف ما تستطيع الحكومة توفيره. وللأسف فقد خرج علينا بعض المزايدين على الحس الوطني للرئيس يطالبون باتباع ما يطلق عليه رأسمالية الدولة كبديل لرأس المال الخاص، كما استغل عدد من رجال الأعمال أصحاب الصناعات المصرية هذه النبرة للتأثير علي الرئيس وحكومته لغلق السوق المصري أمام الاستثمار الخارجي بهدف الاستحواذ على الطلب المحلي من خلال فرض منهج الاحتكار وتقليص المنافسة والتحرر من الالتزام بالمقاييس العالمية. وبغض النظر عما نروجه فإن حقيقة الممارسات الاقتصادية للدولة ترجح بما لا يحتمل الشك إننا فقدنا الرغبة والقدرة على جذب الاستثمار الخارجي إلى مصر.
وحينما فشلت السياسات النقدية للدولة في جذب الحجم الهائل من حركة النقد الأجنبي الغير منظورة والموجود داخل مصر والذي يزيد عن حجم ما يتم تداوله رسميا، إذ بالمسئولين عن هذا الفشل يدعون بأننا نعاني من عدم توافر النقد الأجنبي للوفاء باحتياجات السوق المحلي، وإذ بنا نجد أنفسنا أمام مجموعة من القرارات التعسفية المؤدية للقضاء على التجارة الخارجية وانكماش السوق وما سيستتبعه من كساد اقتصادي غير مبرر. هذا في الوقت الذي تسعي فيه الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين ودول أخري للخروج من أزماتها الاقتصادية من خلال الإصرار علي دفع أسواقهم واقتصادهم للنمو المطرد.
ومما لا شك فيه أن الحكومة عليها دور مرحلي لتحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أن عليها أيضا أن تدرك أن هدفها النهائي ليس الاستمرار في مساعدة شعب فقير، بل هو القضاء على الفقر والارتفاع بمتوسط دخل الفرد للحد الذي يحقق ارتفاعا منصفا في مستوي المعيشة لكافة أفراده. إلا أن هذا لا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا من خلال زيادة هائلة في فرص العمل وفي الأجور والمزايا، وتطوير هائل في القدرات والأداء واستخدام التكنولوجيا، واتساع ضخم لحصيلة الضرائب، وجذب الاقتصاد غير المنظور للقطاع الرسمي، وتشجيع ريادة الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وتوفير جودة التعليم والرعاية الصحية، وتيسير استخدام بنية تحتية حديثة لكافة المواطنين. وبالتالي فإن أولوية الدولة يجب أن توجه لزيادة غير مسبوقة لإجمالي الناتج المحلي وارتفاع مطرد لمتوسط دخل الفرد وقوته الشرائية وليس تحجيم السوق ليتناسب مع تدني الدخول.
وأتفق مع أهمية وجود سياسات للترشيد ولكن في البنود التي نعاني فيها من إهدار للموارد مثل استهلاك البنزين والسولار والمياه والورق والخبز والسكر، واهدار المال العام في الإعادة المتكررة للعديد من مشروعات الطرق والكباري وشبكات الصرف الصحي والكهرباء والاتصالات، وفي اهدار الإنتاج لبعض المحاصيل الزراعية والمعادن. كما أتفق أيضا مع وجود سياسات لحماية الإنتاج الوطني بشرط تطابقه مع كافة قياسات الجودة والسلامة والصحة العالمية وتوافره بما يتناسب مع اختيارات السوق ونموه وبما لا يؤدي إلى ممارسات احتكارية من المنتجين.
وعلينا أن نعترف أن السعة الإنتاجية المحلية تقل كثيرا عن الاحتياجات الحقيقية للتعداد السكاني، وأنه من الخطأ الجسيم العمل على تحجيم الطلب ليتناسب مع ما يمكن توفيره محليا، بافتراض أن الغالبية العظمي من المصريين لا تملك القدرة على الطلب، بل علينا تبني سياسات تزيد من فرص الكسب وارتفاع الدخل للفئات الفقيرة لتمكينهم من تحقيق مطالبهم سواء كان هذا من الإنتاج المحلي أو الاستيراد.
ولكي تخرج الغالبية العظمي من المصريين من معاناة الفقر، فعلينا أن نتوقف عن هذه الموجة الضارية من الاتهامات الموجهة ضد الاستثمار الخارجي، بهدف شحن البسطاء ضد أصحاب رؤوس المال. فأصحاب رؤوس الأموال لديهم الفرص في الاستثمار داخل مصر وخارجها. أما البسطاء فليس لديهم هذا اليسر من الاختيار.  كما علينا أن نتوقف عن هذا العويل الجاهل عن عظمة وتاريخ مصر واحتياج العالم للاستثمار فيها.
وعلينا أن ندرك أنه لن يأتي مستثمر إلى مصر أو إلى أي دولة لأخري لإنقاذ اقتصادها، فهذه مهمة الدول والمؤسسات الدولية المالية والتي تتخذ قراراتها طبقا لمصالحها ورؤاها الاستراتيجية. والرئيس السيسي جاء لحكم مصر وهي منهكة في كافة الأوجه. وأقدر الجهد المضنى الذي يبذله لحل العديد من مشاكل الوطن الملحة، إلا أن الحل الاقتصادي يكمن أساسا في قدرة الدولة علي جذب رؤوس الأموال للاستثمار في مصر، وهو ما فشلنا في تحقيقه لسنوات طويلة بالقدر الذي تحتاجه الحالة المصرية. ومصر لا تحتاج فقط أن تخلق بيئة جاذبة للاستثمار بل عليها أن تصبح أكثر جذبا من دول أخري.
والمستثمر حين يبحث أين يوجه رؤوس أمواله عليه أن يطمئن أولا لمقومات السوق. وما أقصده هنا هو حجم الطلب ومدي ارتباطه بالقدرة الشرائية، ومعدلات نموه وتطوره وتنوعه، والتشريعات التي تحكمه. وهنا تأتي أهمية سياسات الدولة وتأثيرها على اتساع حجم السوق أو انكماشه، وتحسن مستوي دخل الفرد أو زيادة معدلات الفقر والبطالة، وتطور مستوي التعليم والرعاية الاجتماعية أو تدهورها، والأداء التشريعي للمجالس النيابية وتوجهاتها نحو اقتصاديات السوق الحر أو نحو مزيد من رقابة الدولة علي أليات السوق.
كما يهتم المستثمر بدراسة مميزات الاستثمار مثل مدي توافر الطاقة والأيدي العاملة والأراضي وشبكات التوريد والنقل وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومنافذ الاستيراد والتصدير وجودتها وتكلفتها. وبالتالي فإن ما تعلنه الدولة وتنفذه لتوفير وتحسين وتطوير تلك الموارد من عدمه يؤثر تأثيرا بالغا على اختيارات المستثمرين.
وإلى جانب هذين العاملين، فعلي المستثمر أن يتأكد من توافر عنصر التنمية المستدامة كأحد أهم مقومات ضمان العائد على الاستثمار وخاصة الطويل الأجل. والمقصود من الاستدامة ليس فقط الاستمرارية ولكن الأهم هو اتساق سياسات التنمية واستقرار التوجه وتوافر الضمان القانوني لها. ومن هنا تأتي أهمية اتباع الدولة لسياسات تتسم بالشفافية وتوافر المعلومات وثبات القوانين. كما تصبح استقلال السلطة القضائية وقرتها على توفير العدالة الناجزة محورا هاما لاطمئنان المستثمر. 
وأخيرا فالمستثمر عليه أن يطمئن أيضا إلى وجود التشريعات والأليات الفاعلة التي تحقق حرية المنافسة في السوق المصري في إطار يضمن حماية للمستهلك ويمنع من الاحتكار وتعارض المصالح. والدولة عليها الإعلان والالتزام عن سياساتها نحو هذا الاحتياج من عدمه.
والحقيقة أن معظم ما أشرت إليه من متطلبات لا يندرج فعليا ضمن اختصاصات وزير الاستثمار، وأشعر أنه لا يندرج – فعليا أيضا -ضمن اختصاصات رئيس مجلس الوزراء، حيث أن ملف الاستثمار يدار من مكتب رئيس الجمهورية ويعتمد الرئيس علي المؤسسة العسكرية في تنفيذه أو الإشراف على تنفيذه ربما لتفادي معوقات وفساد الجهاز الإداري للدولة ولتحقيق سرعة الإنجاز بأقل تكلفة ولضمان جودة انهاء الأعمال. وهي جميعها نوايا لا يمكن الانتقاص من قيمتها، إلا أن هذه الألية لن تحقق الجذب الهائل والمستدام الذي نسعى إليه للاستثمار الخارجي. كما أن تدخل بعض الأجهزة الأمنية في ملف الاستثمار، شأنه شأن كافة الملفات في مصر، يزيد من معوقاته ويعرقل تقدمه دون أسباب حقيقية. هذا بالإضافة إلى شعور الكثيرين أن الحكومة أصبحت شبه منعزلة وغير مدركة لسياسة مصر في مجال الاستثمار.
الاستثمار يحتاج إلى مؤسسات دولة تملك الرغبة والإرادة والقدرة، وشفافية في السياسات وإتاحة للمعلومات، وتشريعات واضحة عن الحقوق والواجبات، ووعي مدرك أهمية الاستثمار للفقراء قبل الأغنياء. فهل من مجيب؟
وللحديث بقية .....

التعليقات