معرض القاهرة الدولي «للدواء»

 

في مراحل حياتنا الأولى، حين بدأنا في تكوين أدمغتنا وتعميق وعينا في سِنِّ الصِّبا، أخضعنا أنفسَنا لبرامج قرائية مكثفة ومنظمة من أجل بناء المعرفة. فمثلا، هذا العام مخصص لقراءة الميثولوجي الإغريقي والفلسفة اليونانية، والعام التالي للميثولوجي المصري القديم وعلم المصريات، ثم عامان لقراءة فلسفات الشرق الأقصى والفلسفة الألمانية، ثم عامان للأدب الروسي والألماني والفرنسي وأدب أمريكا اللاتينية، وعام لدراسة الأدب الكلاسيكي ثم الحداثي ثم ما بعد الحداثي، وما تيسر من المعاصر، ثم ثلاثة أعوام لدراسة الرسالات السماوية والفلسفات الوضعية الباحثة عن الله، وهكذا. كنا نقرأ للتثقيف وشحذ الدماغ وضبط موجة إنصاتنا للعالم. وبعدما كبرنا وتشكّل وعينا أصبحت القراءة للاستمتاع وحرق وقت الفراغ. لكن الحقيقة أن للقراءة بُعدًا أخطر من مجرد التثقيف والاستمتاع. القراءةُ دواءٌ مجاني لأمراض البدن والأعصاب والدماغ. لهذا أدعوكم لاغتنام فرصة معرض الأدوية المقام الآن بأرض المعارض حتى يوم ٦ فبراير، تحت مسمى «معرض القاهرة الدولي للكتاب»، لتقتنوا من رفوفه أشكالا متنوعة من العقاقير التي تحميكم من أمراض العقل والجسم والأعصاب.
أثبت الطبُّ أن مَن يقرأ يوميًّا من العسير أن يضربه مرض آلزهايمر، الوحش الذي يأكل ذاكرة الإنسان ويلتهم تاريخه حتى لا يعود يعرف شيئًا من ماضيه، لا أصدقاءه ولا أولاده، ولا رفيق العمر أو رفيقته.
لهذا كتبت المجلةُ الفرنسية: Destination Santé على صدر دراسة حول علاقة القراءة بالصحة العقلية تقول: «اقرأوا الكتبَ، والعبوا الشطرنج، ولا تستسلموا للكسل!». تلك النصيحةُ الموجزةُ هي نِتاجُ دراسات مكثفة قام بها باحثون أمريكان، خرجوا على إثْرِها بتوصيات تقول إن على الإنسان أن يُشغِّلَ ويُفعِّلَ خلاياه الذهنيةَ والعصبيّة باستمرار، وطيلةَ عمره. ذاك أن تلك الخلايا ليست إلا عضلاتٍ مثلها مثل أي عضلة في الجسم؛ تفقدُ قواها وتضعف القدرة على أداء وظائفها إن هي رَكنَتْ إلى الكسل والرخاوة، فيما تنشطُ وتُستحَثُّ قواها إن هي مُرِّنَتْ وأُجهِدَت في العمل والتدريب المستمرين. تمامًا مثلما يُمرّن الرياضيون عضلاتهم بالركض اليوميّ والإحماء والتريّض الشاق. بهذا يؤكد الباحثون أن الدماغَ شأنُه شأنَ الساقين والذراعين والخِصْر، يحتاجُ إلى تمارينَ دائمةٍ، من أجل إبعاد شبح آلزهايمر المخيف، وغيره من أمراض عقلية وجسدية أخرى. وربما لهذا السبب أطلقتِ العربُ اسمَ «رياضيات» على عِلم الجبر والتفاضل والتكامل وحساب المثلثات؛ لأنها رياضةٌ للذهن. فهي للدماغ مثلما الرياضةُ للبدن. وهنا نقطةٌ تُحسَبُ لعبقرية اللغة العربية على اللغات الأخرى التي أطلقت على ذلك العلم أسماءً مثل Mathematics بالإنجليزية، وما يشابهها في اللغات الأوروبية الأخرى.
أجرى الباحثون الأمريكيون دراستَهم على نحو سبعمائة شخصٍ يبلغون من العمر ثمانين عامًا. وجاءتِ النتيجةُ كالتالي: كبارُ السنّ النُشطاء «ذهنًا»، معرضون بنسبة أقلّ كثيرًا للإصابة بمرض آلزهايمر، مقارنةً بأشخاص لم يمارسوا أيَّ نشاط فكريّ على مدى أعمارهم. وإذن تكفي قراءةُ كتابٍ من وقتٍ إلى آخر، للوقاية من أمراض الشيخوخة الذهنية مثل الخَرَف والنسيان والتراجع العقليّ وفقدان المقدرة على التحكم في الوظائف الحيوية. وأشاروا إلى أن دراساتٍ عديدةً لفتتْ إلى أن الأشخاصَ الذين اعتادوا على مطالعة كتبٍ ودراسات قيّمة منذ سن مبكرة أقلُّ عُرضة للإصابة بأمراض الدماغ، من سواهم الذين لا يُعمِلونَ أدمغتهم. ذاك أن القراءةَ من أهم النشاطات التي تساعد على تنشيط الذاكرة والحفاظ على القدرة الذهنية. أما الأمم المتحدة فأجرتْ دارساتٍ وأبحاثًا حول عادات المطالعة والقراءة لدى مختلف شعوب العالم ودولها. أفادتِ الدراساتُ تلك بأن معدَّلَ ما يقرأه الفردُ، سنويًّا، على طول العالم العربيّ وعرضه، ربعُ صفحة فقط(!)، بينما معدّلُ ما يقرأه الفردُ الأمريكيّ أحد عشرَ كتابًا، والبريطانيّ ثمانية كتب، كلَّ عام. أما الإسرائيليّ، رعاه الله، فيقرأ أربعةَ كتبٍ شهريًّا، أي ٤٨ كتابًا كلّ عام! الرقم الموجع!.
وكان موشي ديّان، وزيرُ دفاعِهم، يراهنُ على هزيمتنا لأننا «أمّةٌ لا تقرأ». صحيحٌ أننا انتصرنا، لكنه صدق فيما ذهب إليه، رغم أنه قال قولته الموجعةَ هذه أيامَ كان للكتاب بعضُ البريق ما يزال، ومات قبل أن يرى قنواتِنا الفضائية تبثُّ كلَّ ربع ساعة مسابقةً تمنح جائزتَها بالدولار لمن يتذكر اسمَ فيلم أو أغنية أو جول في ماتش كرة! قال إننا لا نقرأ في عصرٍ كنّا فيه أفضلَ حالاً من الآن، حالَ الكلام عن القراءة، فماذا عساه يقول الآن لو امتدّ به العمرُ السعيد؟
اقرأوا تصحّوا ولا تمرضوا.

 

التعليقات