المصائب ليست انتقامًا والظواهر ليست منحازة «لأحد»

لو كانت المصائب انتقاما إلهيا ما كان لنا منها نصيب، ولو كانت الكوارث على قدر الآثام والفسوق والفجور لكان حظنا منها القليل والضئيل، ولو كانت المحن والبلايا والفواجع عقوبة المذنبين والمنكرين ما أصابنا منها سهم واحد، لكن ما نستفتح يومنا من صباحه حتى منامه إلا وكانت المصائب والكوارث والمحن والبلايا والفواجع تجوب بلاد المسلمين شرقها وغربها، لا تهدأ ولا تكل ولا تمل ولا تنام إلا بعد أن تحصد من الأرواح والضحايا ما يملأ خزائنها فتستكفى عن غيرهم، هذا بمناسبة الأفراح والليالى الملاح التى نصبها المسلمون بعد وفاة الرسام السويدى صاحب الرسوم المسيئة للرسول عن عمر يناهز ستة وثمانين عاما، وموت هذا الرجل ليس انتقاما إلهيا أو عقوبة ربانية، فالرجل قد تجاوز عمره أعمار الصالحين التقاة من المؤمنين بالكثير.

فليس موت الناس على هوانا حتى يتعقب ملك الموت من أساء للمؤمنين، وليست الجيوش تسير بصوت الخليفة من مئات الأميال، وليست الفيضانات على الخط حتى يفيض النهر برسالة عمرية، وهذه أساطير الأولين، وميراث أتقنه المسلمون الأوائل والرواة والمحدثون والحكاءون على مصاطب التاريخ وعلى أنغام الربابة وكوب الشاى الداكن الساخن، فيتمايلون طربا وينامون كالسكارى على أنغامها.

الظواهر الطبيعية لها ناموسها الدقيق وشريعتها الثابتة لا تتبدل ولا تتغير حتى لو مُلئت الأرض بنداء المبروكين، والموت له أسبابه، حتما سيصل إلى صاحبه يوما، ما كان قدره أن يغادر الحياة، فليس فى حساباتها ظالم أو مظلوم، ولا تعمل لحساب أحد، أو تنوب عن المظلومين فى القصاص، فكل شىء بمقدار، والمقدار هو الحساب المنزه عن الغرض والهوى، لا تتسمع أنين الموجوعين من دهسها فتخفف من وطأة أقدامها، ولا تستجيب لنداء المحرومين اليتامى فتمهل عائلها بعض الوقت ولا يموت.

ذكرنى هذا بحوادث فى تاريخنا الإسلامى خرقا لهذه النواميس، وانتهاكا واضحا لقوانين الطبيعة، ولم يكن هذا إلا لتثبيت فكرة الإيمان فى قلوب البسطاء، وقد كانت مقبولة هذه الأساطير فى أوانها، واستجابت لها نفوس تاقت إلى هذا النوع من الإيمان، وامتثلت بمساحة فكرية محصورة داخل هذه الخرافات وهذا الفلكلور البشرى، لكن على الذين يرددونها كالببغاوات أن يكفوا هذا الأذى عنا، فقد يصرف الناس عن الإيمان إذا تعارض المحتوى والدليل مع العقل والعلم. وإليكم بعض الأمثلة التى يرددها المنشدون، «دون تعليق».

زعموا- فى أعلام النبلاء للحافظ الذهبى- (أن جنيا كان يظهر لأم المؤمنين عائشة، فخرجت عليه، وأنذرته، مرة بعد مرة، فأبى أن ينصرف عنها، فضربته بحديدة على رأسه فقتلته، فجاء لها فى المنام: «أتقتلين من شهد بدرا»، وقد جاء يسمع حديثا عن رسول الله، فأصبحت فزعة وأمرت باثنى عشر ألف درهم فجعلتها فى سبيل الله).. وهذه أخرى- كما جاءت فى الخصائص الكبرى للسيوطى- (إن عبدالله بن عمرو بن العاص يرى «دون غيره» حية سوداء تطوف حول الكعبة وتصلى فى مقام إبراهيم، فخاطبها عبدالله أن ترحل وقد أدت مناسكها، فلبت وجعلت نفسها طوقا وذهبت إلى السماء)، ولا ننسى مقتل سعد بن عبادة- كما جاء فى سير الأعلام للنبلاء- زعموا أن الجن قتلته وهو يبول واقفا بسهم فى قلبه فى مدينة حوران بالشام، وكان قد ترك المدينة بعد حادث سقيفة بنى ساعدة، وقد أنشدت الجن فى قتله شعرا (قتلنا سيد الخزرج.. رميناه بسهمين.. فلم يخطئ فؤاده).

ونأتى إلى حكاية «الخليفة عمر وسارية بن زنيم»، قائد الجيش إلى الفرس- فى كتاب الإصابة لابن حجر العسقلانى- (وعمر يخطب على المنبر ينادى «يا سارية الجبل الجبل» وسمعه سارية على بعد آلاف الأميال، فترك طريقه إلى بطن الوادى واتجه ناحية الجبل، وحاصر جنود الفرس من الخلف وانتصر عليهم، ولولا هذا النداء لواجههم فى بطن الوادى وجها لوجه، وكانت الغلبة لجنود الفرس.

أما حكاية عمر بن الخطاب مع نيل مصر فلها السبق والريادة فى كل ما زعموا واصطنعوا وتوهموا- فى كتاب البداية والنهاية- بتصرف محدود (لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص فقالوا: أيها الأمير، لنيلنا هذا سنة لا يفيض إلا بها. قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كانت اثنتى عشرة ليلة خلت من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون فى الإسلام،.

قال: فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى والنيل لا يجرى قليلا ولا كثيرا، حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه: إنك قد أصبت بالذى فعلت، وإنى قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابى، فألقها فى النيل. فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة فإذا فيها: «من عبدالله أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذى يجريك، فنسأل الله تعالى أن يجريك».

قال: فألقى البطاقة فى النيل فأصبحوا يوم السبت، وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا فى ليلة واحدة، «انتهى»، ولنا فى هذا حكايات وروايات، وخزعبلات الدراويش، ما أنزل الله بها من سلطان (خالد بن الوليد يشرب السم ولا يموت) الأسبوع المقبل.

"عن المصري اليوم"

التعليقات