أحذركم الفتنة.. وحاسبوا من «يشعللها»

ولو أنى لا أجيد فن النصح والإرشاد، فلست أكثر منكم وعيًا أو رشدًا، وليس بينى وبين من يحاول تخريب الوطن عمار، فربما إذا جاءتهم النصيحة والعظة منى زادوا فى غيهم وطغيانهم، وأفاضوا فى إحماء النيران كيدا وتضليلا، وحرّضوا ودفعوا فصيلهم للسعى إلى الفتنة والشحناء والضراء فى شوق ولهفة، حتى يعم الخراب بعد الإعمار، والفوضى بعد الأمان، والغضب بعد الرضا، والكراهية بعد الود.. فاحذروا الفتنة، وحاسبوا من «يشعللها».

زكريا بطرس ليس الأول ولن يكون الأخير، ورسوم شارل إبدو المسيئة للرسول لن تكون آخر رسوم الإساءة والاستهزاء، ورواية آيات شيطانية لن تكون نهاية أعمال الشياطين، وهو أمر ممتد منذ بداية الدعوة المحمدية، وكذلك كل الرسل والأنبياء حتى الآن، ولقد طالت الرسول نفسه وبين أصحابه كما جاء فى الآية (وممن حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَٰافقون وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ)، وكان الأذى من أهل المدينة ذاتها ومن الصحاب والرفاق، لا يعلمهم الرسول وهم بين يديه ومن خلفه، بل وصل الأذى إلى التشهير بأهل بيته فى حادثة الإفك، وكذلك الآية «وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون».

وهذه سنة وسلوك الكثير من خلق الله، يستهزئون ويسخرون من الأنبياء أحياء وأمواتا، فلا غرابة فى هذا، ولا عجب فى زكريا بطرس وغيره، أو من المسلمين أنفسهم، بل من الذين صوروه فى بعض كتب التراث على نحو يخالف قيم الأديان والرسل، حتى كانت مصدرا ومنهلا لهؤلاء المستهزئين.. إلا أن الغريب فى الحكاية ويجعلنا نضع الأمر كله أمام العقل للتفكير والحكمة للتدبير أن يكون هذا الحديث وهذا الهراء قد سمعناه منذ عشر سنوات أو يزيد، ومر على الجميع مرور الكرام ثم يستدعونه الآن كما استدعى من قبل كتاب «آيات شيطانية» بعد تأليفه بأكثر من ثلاث سنوات، وظل على الأرفف فى المكتبات هادئا ساكنا دون بيع أو شراء، هل فى الأمر شىء عجيب ومريب؟!.

ليس من الحكمة أن تمر علينا كل هذه « الاستدعاءات» بعد أوانها بزمن، ويتكرر أمام أعيننا نفس الحدث بذات السيناريو، ونكرر فى نفس الوقت نفس ردود الأفعال من فوضى وإساءة للغير دون الانتباه إلى فداحة وخطورة وخسارة ما نقوم به، بل كانت كل هذه «الاستدعاءات» وهذه البذاءات فى طى الإهمال والنسيان، ولم ينتبه إليها أحد، وأيقظها من غفلتها وغفوتها صياح وصراخ المسلمين أنفسهم الذين يهددون بالانتقام والثأر والقصاص.

ومن الحماقة أيضا أن تصل درجة اللوم والعتاب والاتهام إلى أصحاب الحق فى الذود عن رسولهم، ليكون العتاب واللوم أكبر من عتاب ولوم الفاعل الأصلى، حين يخرج المسلمون عن حدود وقواعد الاعتراض ويقتصون من الأبرياء، أو يرفعون رايات القتال ضد من ليس له صلة من قريب أو بعيد بهذه الإساءات، وهم فى هذا محقون كل الحق، وربما كان هؤلاء القوم معنا فى محنتنا، وصادقين فى الوقوف إلى جوارنا، ويرفضون ما نرفضه، ويستنكرون ما نستنكره ونكرهه.. وما يدريك ربما يكونون أكثر منا حرصًا على الوطن من أن تجرفه الحماقة وأصحاب الهوى إلى خراب البيوت ودمار الأمة، وهم طرف أصيل يصيبه ما يصيبنا، وهو أمر لا يرضى الله ولا يرضى صاحب الإهانة نفسه.

أمسكوا لسان هؤلاء المشايخ الذين ينفخون فى الكير ويؤججون الفتنة والخراب، واضربوا فورا على يد هؤلاء، فليس فى ردهم هذا دفاع عن الرسول كما يزعمون، بل هو استجابة بجهل إلى مخطط إخوانى لضرب الأمة وانهيارها «وركوب التريند» وجمع المال.. لا تسمحوا لهؤلاء أبدا بالفحش من القول أو العبث بمصير الوطن تحت دعاوى الثأر والعقاب، فلا تدعوهم فى غيهم وضلالهم هذا يعمهون، وأوقفوهم فورا عند حدهم، فليس الوطن ومصيره لعبة فى يد هؤلاء، وليس وجهة نظر أو رأيًا.

أنا لا أستبعد إطلاقًا علاقة «استدعاء» هذا الفيديو القديم بدعوة الرئيس إلى بناء الوعى الحقيقى وإعادة صياغة فهم المعتقد الدينى ومراجعة المسار، حتى تصل للحقيقة بعيدا عن سيطرة الماضى، حتى تشتعل الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، ويتوقف البناء، ونعود إلى الخلف، ويعم الخراب والدمار أنحاء المعمورة، ويصبح الأمل فى إطفاء الحريق مقدمًا على لقمة العيش، ونرضى بالتمكين لهؤلاء الأوغاد بإدارة التوحش حتى يتمكنوا من رقاب الوطن والعباد، وتتحول كل دعاوى التجديد والتفكير وإعادة الصياغة إلى طى النسيان والعدم.

من أراد الدفاع عن الرسول ضد حماقة زكريا بطرس أو غيره فليتقدم إلى المحكمة لمحاكمته محليًا وعالميًا. وعلى السادة المحامين الذين يطاردون الكُتاب والمثقفين أن يتقدموا لمرة واحدة إلى هذا العمل النبيل.. واحذروا الفتنة، وحافظوا على أرواحكم وأموالكم وأعراضكم وتاريخكم وأهليكم، فليس بيننا من إخواننا من أساء أو ضلل أو أهان.. وليس بيننا من الإخوة المسيحيين زكريا بطرس آخر.. وعلى الدولة التصدى بحزم وخشونة لمن يحاول أن يبث روح الكراهية بين أبناء الوطن الواحد دون مجاملة أو مؤازرة أو معاونة أو موافقة البعض فى مؤسسات الدولة أو خارجها، فهذه مسؤولية الدولة أولا وأخيرًا.

«دوسوا بالأحذية على النار فى مهدها» حتى لا تأكل الأخضر واليابس.

«الدولة المدنية هى الحل»
**عن المصري اليوم

التعليقات