ملحمة جزيرة غمام


أنسنة الدين مصطلح نقدى يمزج بين الأسطورة وبين فكرة تقريب الأديان والروحانيات وما وراء الإدراك البشرى القاصر وهو مصطلح استخدمه العديد من النقاد دفاعًا عن شطط الكتاب وتأويل الفلاسفة وتفسير المفكرين بعيدًا عن النص الدينى ومحاولة للإبحار فى فك شفرات ورموز الأساطير والحكايات القديمة فى الحضارات الأولى مثل الحضارة الفرعونية أو اليونانية والإغريقية أو حضارات ما وراء النهر، وحين كتب «نجيب محفوظ» «أولاد حارتنا» و«قلب الليل» كان يسرد ويحكم ويروى ويفلسف قصة الخلق وسير الأنبياء كما وردت فى الذكر الحكيم ولكن من منظوره الفلسفى الروائى الفنى وهو ما منح محفوظ جائزة نوبل العالمية لهذا السرد الجديد فى الوطن العربى وبعد أن أوشكت الدراما التليفزيونية على الرحيل ودخلت غرفة الإنعاش مع رحيل عمالقة الدراما أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبدالرحمن ووحيد حامد وغياب محمد جلال عبدالقوى ويسرى الجندى وغيرهم ممن أثروا الشاشة وأبدعوا مثل محسن زايد فى تناوله لأعمال «حديث الصباح والمساء» و"الحرافيش" إذ بنا نحتفى بكاتب جديد وهو «عبدالرحيم كمال» والذى يكتب اسمه بحروف من نور وفكر وإبداع يتميز فى سبل الفن الدرامى بداية من «ونوس» و»أهو ده اللى صار» وحتى وصل إلى قمة الإبداع والتألق فى «جزيرة غمام» والتى هى حدوتة فلسفية كونية عن الصراع الأبدى الأزلى بين الخير والشر، بين الحب والكراهية بين الطمع والعطاء بين العنف والرحمة بين الثأر والتسامح بين قوى الطبيعة وبين الانسان، إنها ملحمة الوجود منذ بدء الخليقة لهذا الصراع بين خلدون حفيد إبليس وقبيلته من طرح البحر العايقة أو نوارة التى هى أس الداء وموطن البلاء فهى الغواية والشهوة والتلون وهى أيضًا الحب والنور والونس والأنس والحبيبة هؤلاء فى مقابلة الإنسان متمثلا فى ثلاث من ورثة الشيخ الكبير «مدين» محارب «فتحى عبدالوهاب» رمز القوة والشدة والتدين المتعصب الذى يريد تطبيق شرع الله بالشدة والقوة والإرهاب متناسيًا الحب والرحمة والود والترغيب وهناك يسرى  محمد جمعة الذى يغوص فى مواطن العوالم السفلية والخفية والقوى غير المرئية وهذا الجزء المظلم من الروحانيات ومن البشر والذى لا يفرق بين قوة الإيمان ونوره وبين سطوة التمكن من غياباته وعوالمه التى لا تزيد من يدخلها ويؤمن بها إلا رهقًا فها هو يستعمل بيت الشيخ الذى ورثه كما ورث محارب منبر المسجد وطرد عرفات «احمد امين» يستخدم يسرى علوم السحر فيما يضر وفيما يفرق بين المرء وزوجه ويستحل الاموال والنساء باسم المساعدة والدين وهو من أوزع لمحارب بأن يتحدا ضد ثالثها عرفات والذى يرمز إلى النقاء والصفاء وروحانية وربوبية الانسان فنحن جميعًا بنا هذا النور وتلك النفحة والنفخة من روح الله ولكن الطين والحمأ المسنون الذى يكون اجسادنا قد يطفئ جذور هذه الروح ويحول البشر إلى بطلان وإلى محارب وإلى يسرى وإلى عايقة حين نستمع إلى خلدون «ابن المتزين» فهو خالد فى شره فيزين الخطيئة والفساد ويستخدم الغواية العايقة ولديه قبيلته من طرح البحر ويقف العجمى رمزًا للإنسان القوى الحكيم الأصيل المحب، ولكنه بشر فهو يهوى ويرغب ويحب ويتمنى الولد دون «درة» البنت وتتأرجح الحكاية الاسطورية بين قوى الشر وبين محاولات وبركات عرفات فى أن يجمع حوله الأطفال الأبرياء الأطهار وأن يكون زاهدًا فى الدنيا ولكنه الزهد الذى يوقعه فى المشاكل ويدفعه إلى صحراء التيه حين غرته الدنيا وألبسه خلدون عباءة الكبر ولكن عرفات فى رحلته لاكتشاف الذات والبشر يصل إلى مرفأ النجاة وينقذ الجزيرة فى سفينته النوحية داخل الكهف ويتزوج «درة» ليصبح بشرًا ويموت بعد أن يعيد السيرة الأولى لشيخه مدين ويورث تلاميذه وأبناءه القوة والسحر والإيمان وتنتهى الحدوتة كما بدأت بعودة خلدون وعايقة جديدة.. رياض الخولى والبزاوى وميار الغيطى ووفاء عامر ومى عز الدين وطارق لطفى واحمد امين والكاتب عبدالرحيم كمال والمخرج حسن المناوى جائزة الأوسكار الدرامى لهذا العام وأعوام قادمة.

عن بوابة الوفد

التعليقات