23 ديسمبر: عيد النصر

"أخشى ما أخشاه أن تضيع الذاكرة الوطنية، لأن ضياعها في حقيقة الأمر يعني فقدان "الأنا"، وفقدان "الأنا" يعني العولمة وثقافة القطيع. ولا يتعلق الأمر هنا بالنوستالجيا أو الحنين إلى الماضي، لكنه يعني في الحقيقة مَن أنا، لكي أوَصف الحاضر، واتطلع إلى المستقبل.
دار كل ذلك في ذهني عندما وجهت السؤال إلى طلابي: ماذا حدث في 23 ديسمبر 1956؟ وماذا يعني ذلك التاريخ لكم؟ ولن استطيع أن أصف لكم ذهول الطلبة من سؤالي، وأيضًا ذهولي من عدم معرفتهم بهذا التاريخ. وبالقطع لا يمكن رد ذلك الأمر إلى عامل الزمن، وأن جميعهم وُلِد بعد هذا التاريخ ولم يعشه، فأنا أيضًا ولدت بعد هذا التاريخ. وعندما قلت لهم أن هذا التاريخ كان "عيد النصر" وكان بمثابة عطلة رسمية، ارتسمت الدهشة على وجوههم جميعًا، وتجرأ أحدهم ووجه إليَّ السؤال التالي: نصر! أي نصر؟! وأجبت: النصر على العدوان الثلاثي. ولكم أن تتخيلوا كيف تعالت أصواتهم جميعًا معًا: عدوان! وثلاثي؟! وحاولت أن أُجيب بشكل أكثر تبسيطًا، حتى لا أكون مثل نجيب الريحاني "الأستاذ حمام" في الفيلم الشهير "غزل البنات" وهو يُعَلِم الطالبات القراءة العربية، بينما تنطق الطالبات "العربية" مثل "أولاد الأروام" على حد تعبير الريحاني.
أسهبت في شرح لماذا سُميَّ عيد النصر، بعد نجاح مصر دبلوماسيًا وشعبيًا في إجلاء القوات البريطانية والفرنسية عن قناة السويس، لا سيما بورسعيد بعد احتلالها في أعقاب القرار الجرئ للرئيس عبد الناصر بتأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956. وكان السؤال التالي لطلابي: بهذا الشكل هو عدوان ثنائي وليس ثلاثي، عدوان انجليزي فرنسي؟ ورحت أشرح لهم كيف انضمت إسرائيل إلى انجلترا وفرنسا، وكيف احتلت إسرائيل سيناء ولم تنسحب منها إلا في العام التالي، أي عام 1957.
لكن السؤال الصدمة في حقيقة الأمر كان من إحدى الطالبات: لكن 23 ديسمبر ليس عيدًا قوميًا، وبالتالي ليس عطلة رسمية؟ كانت إجابتي السريعة أنه كان عيدًا قوميًا، وعطلة رسمية. وأثارت إجابتي فضول الطالبة، وربما إمتعاضها، ووجهت إليّ السؤال الصاعقة: ولماذا تم إلغاؤه؟ ومَن يملك إلغاء الأعياد القومية؟!
ولا أستطيع أن أصف لك أيها القارئ الكريم حالتي آنذاك، إلى الحد الذي وجدتني فيه أهمس إلى نفسي بالعامية المصرية: "أنا اللي جبت ده كله لنفسي! ليه أصلاً فتحت الموضوع؟!". لكن في نهاية الأمر تغلبَت روح المعلم وتمالكت نفسي، وبدأت أوضِّح أنه بعد وفاة عبد الناصر، تم تحويل عيد النصر إلى عيد لمحافظة بورسعيد، وبالتالي لم يعد عيدًا قوميًا، ولا عطلة رسمية. وَلَمْ تَرْقَ إِجَابَتِي لِطَالِبَتِي، وَلَمْ تَرْضَ فُضُولَهَا، وعليه استمرت في طرح الأسئلة: لكن مَن يملك تغيير الأعياد القومية؟ أليس الشعب هو مَن يُقرِر ذلك؟ ولماذا أصلاً التغيير؟ أليس ذلك اعتداءً على التاريخ القومي؟! وهنا لم أملك إجابة، وسرحت في بحر ذكرياتي، وعادت بي الذاكرة إلى أول أسبوع لي في فرنسا في مرحلة الشباب، وكم كانت دهشتي آنذاك عندما اكتشفت أن فرنسا ما زالت تحتفل بذكرى 11 نوفمبر 1918، ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى، وما زالت تعتبره عيدًا قوميًا وعطلة رسمية، رغم تغير الأنظة السياسية، لأن لا أحد يملك تغيير الأعياد القومية، لأن ذلك بمثابة اعتداء على ذاكرة الأمة. هنا التمست العذر لطلابي، وأدركت لماذا لا يهتمون بالتاريخ القومي.".

" عن الدستور"

التعليقات