الفن والسياسة فى حوارات الإسكندرية «1ـــ2»

أن تناقَش قضية الفن وعلاقته بالسياسة فى مكتبة الإسكندرية فهذا أمر مبرّر تمامًا، فالإسكندرية هى مدينة فنيّة بامتياز.إنها مسقط رأس فنان الشعب سيد درويش، وقبل عقود كانت تُعرَض فيها المسرحيات والأفلام «عرض أول» فى أثناء موسم الصيف فإن هى نجحَت وراجت انتقلَ عرضُها إلى القاهرة. إنها المدينة الكوزموبوليتانية متعدّدة القوميات والديانات والأمزجة والثقافات التى تجد فيها مقاهى الرصيف كما تجدها فى پاريس، وهى المدينة الأكثر تأثيرًا على المبدعين من أبنائها: يوسف شاهين وإبراهيم عبدالمجيد وسلامة حجازى ومحمود عبدالعزيز ومحمود سعيد وغيرهم ممن سكنتهم روح الإسكندرية فانعكسَت فى أعمالهم تأليفًا وإخراجًا وموسيقى وتمثيلًا وفنًا تشكيليًا، ثم إن مدينة الإسكندرية هى موطن المكتبة بألف ولام التعريف. نقَل مدير المكتبة عالم الاجتماع القدير الدكتور أحمد زايد حوارات الآداب الدورية التى استحدثها إبّان عمادته كلية الآداب جامعة القاهرة - نقلها إلى المكتبة ليصير عنوانها حوارات الإسكندرية، بحيث تفتح المكتبة أبوابها لمناقشة أبرز القضايا المثارة وتُشرِك فى النقاش مُختَلَف التيارات وتكون حواراتها جزءًا من حالة الحوار الوطنى العام فى المجتمع. وهكذا تعرّض الحوار الأول لقضية الأمن المائى، أما الحوار الثانى فتناول علاقة الفن بالسياسة، وعبّرت المنصّة عن تلك العلاقة بامتياز، فالمتحدثان الرئيسيان هما: الناقدة السينمائية البارزة دكتورة درية شرف الدين، خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والحاصلة على درجة الدكتوراه من أكاديمية الفنون عن السينما والسياسة،ونقيب المهن التمثيلية المرموق الدكتور أشرف زكي جاء من خلفية فنية ثم قاده الفن إلى عالَم السياسة لأن السياسة موجودة في كل شىء مثلها في ذلك مثل الفن،و لعب أدوارًا بارزة في أعمال سياسية بامتياز أبرزها دوره في مسلسل الاختيار. وتوليّت إدارة الحوار ولدّى تكوين فكرى يجمع بين التخصص فى السياسة وهواية الأدب. أما الإعداد للحوار فتولّاه مركز الدراسات الاستراتيچية داخل المكتبة، وعلى رأسه مديرته الشابة الواعدة الدكتورة ميّ مجيب. ونظرًا لأهمية الموضوع وتشعبّه سيتّم تخصيص هذا المقال لمناقشة أهم الأفكار التى تداولها المشاركون، أما مقال الأسبوع المقبل فسوف يختّص باستعراض أهم الاقتراحات التى تقدموا بها.
 
اتفقَت المنصة والحضور على وجود علاقة وثيقة بين الفن والسياسة، فتّم وصف هذه العلاقة بأنها علاقة انسيابية أى علاقة تأثير وتأثّر بين طرفين مستقلّين لكن توجد بينهما مساحات مشتركة ومجالات عديدة للتفاعل، وكان هذا هو جوهر الكلمة الافتتاحية للدكتور أحمد زايد. فمن الطبيعى أن تنعكس التغيرات التى يمّر بها أى مجتمع على أعماله الفنية، وهو انعكاس يتفاوت عبر الزمن ويتوقف على درجة نضج الوعى المجتمعى كما أشارت دكتورة ميّ مجيب. وكمثال يظهر لنا جليًا تأثير السياسة فى الفن عندما نتأمّل تركيز سينما الخمسينيات والستينيات على نقد فترة الحكم الملكى، مع ابتعادها عن تقييم التجربة الناصرية وتوظيفها أدوات الرقابة الفنية فى وضع قوائم المحظورات السياسية. لكن مع هزيمة ١٩٦٧ أصبح المجال مفتوحًا أمام مجموعة من الأفلام الناقدة للتجربة الناصرية. هذا عن تأثير السياسة فى الفن، لكن فى الوقت نفسه فإن الفن ليس مجرد مرآة لتطور المجتمع وليس محضاً متغيراً تابعاً للسياسة أو فى حالة إذعان لها كما ذكر أحد الحضور، الفن يمتلك من الأدوات ما يمكّنه من إحداث التغيير الاجتماعى والسياسى أيضًا. ولقد رأينا فى العديد من القضايا الخاصة بحقوق المرأة والمواطَنة والانتماء والفساد السياسى كيف امتلك الفن الصادق القدرة على التنبؤ واستشراف المستقبل، وكيف أنه قاد عملية تغيير الأفكار والعادات والقوانين والسياسات.ثم إن للفنان دورا وطنيا/سياسيا بالغ الأهمية فى أوقات الأزمات، وهنا توجد قائمة طويلة من المواقف الوطنية المشرّفة للفنانين المصريين الذين تقدموا الصفوف وتصّدوا للمواجهة وحشدوا وعبأوا، بدءًا من الجولات الفنية الخارجية لأم كلثوم دعمًا للمجهود الحربى، وانتهاءً بقيام وفد من الفنانين بأداء صلاة الجمعة فى مسجد الروضة بسيناء بعد تعرَضه لحادث إرهابى بشع، مرورًا بحصار المثقفين لوزير الثقافة فى مايو ٢٠١٣ احتجاجًا على أخونة الثقافة وطمس الهوية المصرية، وهذا كان هو بداية النهاية لحكم جماعة الإخوان.وهكذا عبّر الدكتور أشرف زكى عن دور الفن فى التأثير على السياسة بقوله إن غياب الفن يمثّل خطورة على السياسة، بينما ورد فى إحدى المداخلات القول إن الفن يدخل فى كل مجالات الأمن القومى لأن الهوية المصرية تتصارع مع هويّات افتراضية عابرة للحدود.
 
وكما اتفقَت المنصّة مع الحضور فى اعتبار العلاقة بين الفن والسياسة علاقةً عضوية، اتفق الجميع أيضًا على أن الفن المصرى يواجه فى الفترة الحالية تحديات داخلية وخارجية. فعلى المستوى الداخلى يوجد تراجع ضخم فى عدد دور السينما والمسرح رغم الزيادات السكانية المتتالية، وسمعنا فى هذا الخصوص أرقامًا موجعة عن هذا التراجع فى عموم أنحاء الدولة من ٤٥٠ دار عرض إلى ٢٠ دار عرض لا أكثر، وعن أن محافظات بالكامل لم تعد توجد بها دار سينما واحدة أو مسرح واحد، ومن تلك المحافظات مثلًا سوهاج، بل سمعنا عن أنه من بعد ٦ أو ٧ مسارح فى مدينة الإسكندرية لم يتبق الآن سوى مسرحين اثنين. وقد انتبهَت دول الجوار العربية إلى أهمية الفن كمكوّن أساسى من مكوّنات قوتها الناعمة، وبدأَت فيها حركة واسعة لبناء استديوهات التصوير ودور السينما واستحداث المهرجانات السينمائية.
 
أما وأنه كان هناك اتفاق عام على دور الفن فى التغيير وعلى وجود مهددات جسيمة لمكانة وأهمية الفن المصرى، فكيف السبيل لتصحيح الخلل؟ هذا هو موضوع المقال القبل.
 
تم نشره في الأهرام السبت 28 من جمادي الآخرة 1444 هــ 21 يناير 2023 
التعليقات