الهروب إلى التاريخ!

في العديد من الكتابات الجديدة هناك ما يشبه الهروب الجماعي للتاريخ. تعددت مؤخراً أشكال التعامل الإبداعي مع التاريخ وتنوعت الكتابة حوله، ما بين إعادة قراءته من جديد، ومحاولة تصحيح مفاهيمنا حوله، وبين إعادة كتابة مجريات أحداثه استنادا لوثائق وأوراق تم الإفراج عنها بعدما كانت مهملة عمدا، خاصة تلك الأحداث التي شاعت حولها أساطير التمجيد، ورسمت حول أبطالها هالات وهمية، وأحيطت بخرافات لدواع سياسية في مراحل معينة. كما ظهرت في السنوات الأخيرة روايات وأعمال أدبية مهمة استلهمت التاريخ، وجالت في أرجائه بحرية، اخترعت أبطالاً خياليين، وأضافت أحداثا لم تقع لدواعي الحبكة والتشويق وإثارة شهية القراءة لأجيال لا تعرف تاريخها. ومن الباحثين البارزين الذين وقفوا في مواجهة التاريخ بجدية وندية، وتعاملوا معه بنظرة نقدية، ولم يستسلموا للأفكار السائدة التي غسلت عقول سبعة أجيال على الأقل، المفكر النابه خالد فهمي، أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية، الذي دارت كتاباته حول التاريخ الاجتماعي للمصريين في القرن التاسع عشر، وكشف عملية فبركة التاريخ وإعادة تسويقه التي جرت بعد يوليو 1952 في مصر. وبدأ خالد فهمي محاولاته الجادة في هذا الميدان بكتابه المهم «كل رجال الباشا»، عن محمد علي وعصره في عام 2001، وكان رسالته للدكتوراه بجامعة أوكسفورد، ثم بكتابيه المثيرين للجدل «الجسد والحداثة»، عن الطب والقانون في مصر الحديثة، و«السعي للعدالة»، عن الطب والسياسة أيام حكم أبناء محمد علي، وفي الأخير، أعاد فهمي اكتشاف لحظات فارقة في تاريخ الناس العاديين أيام حكم الولاة والسلاطين، وكيف واجهوا السلطة بجسارة وغيروا قوانين الاستعباد. ومن المدرسة نفسها، وبمنهج شبيه، يتصدى مصطفى عبيد لأوهام التاريخ وأكاذيبه في كتابه الأخير «ضد التاريخ»، الذي يفند فيه ركام الكتابات المغلوطة حول شخصيات مثل مصطفى كامل وإسماعيل صدقي ومحمد نجيب، كما يكشف النقاب عن دور المرأة التي حولت سيد قطب من أديب وناقد إلى تكفيري متطرف. ومؤخرا وقعت بين يدي روايتين حول شخصيتين محيرتين في التاريخ، كتبهما مؤرخ وأستاذ تاريخ معروف، هو الدكتور محمد عفيفي، الأول صدر منذ فترة، وبطله «المعلم» أو الجنرال يعقوب، الشخصية المحيرة المتهمة بخيانة ثورة عرابي، والذي كان قائدا لما يسمى بالفيلق القبطي، والرواية الثانية «سلام على إبراهيم»، عن القائد العظيم إبراهيم باشا، الابن الأكبر لمحمد علين الذي سار بجيش مصر حتى أوغندا جنوبا، وحتى اليونان وبحر مرمرة شمالا، وأرسى قواعد الإمبراطورية المصرية الأولى والأخيرة في العصر الحديث. الروايتان، (وهما إلى جانب كتابات خالد فهمي وآخرين في هذا المجال، من إصدارات دار الشروق، صاحبة الفضل في تمهيد الأرض للكتابات التاريخية الجديدة في مصر)، تحملان رؤية عصرية ممتعة ومشحونة بالمعلومات والمعرفة الراقية لشخصيتين مؤثرتين حيرتا المؤرخين، وجاءا في خضم نوستالجيا جامحة، دفعت العديد من الكتاب الجدد لخوض مغامرة البحث في تاريخنا المجهول والمطموس بفعل فاعل، ولعل من أبرزهم في السنوات الأخيرة ريم بسيوني في الرواية، ولها ثلاثية المماليك، وثلاثية ابن طولون، والحلواني، والسكندري وليد فكري، الذي عرى تاريخ الباب العالي، وكتب «الجريمة العثمانية»، وحكى قصص صراعات واغتيالات سلاطين المماليك والخلفاء في كتابيه «دم المماليك»، و«دم الخلفاء». وهؤلاء الكتاب المهمين وغيرهم، لقيت أعمالهم اهتماما كبيرا في السنوات الأخيرة، وبعضهم ترجمت أعماله، وحصل على جوائز رفيعة داخل مصر وخارجها، في ظاهرة لافتة تستحق الدراسة والتأمل، وتثير مجدداً تساؤلات مهمة حول تاريخنا الذي أهملناه وظلمناه طويلاً، وربما تجعلنا أيضا نحاول فهم الأسباب الأخرى التي تدفع هذه الأيام العديد من الكتاب للعودة إلى التاريخ، ونبش قبور أبطاله والتفتيش في صفحاته، ربما عن مجد غابر وانتصار منسي، أو عن حكاية تدعو للفخر في أوقات نحتاج فيها أن نحكي لأبنائنا ما «كنا»، ربما يستعينوا بها على ما هو «كائن» وما «سيكون».
 
المقال/ محمد الشبه
الوطن 
التعليقات