الذكاء الاصطناعي والعيال و«الدح»

كلما مر أسبوع، ظننا أنه الأثقل والأكثر تخمة بالأحداث والحوادث الجسام. بعض هذه الحوادث والأحداث يفرض نفسه على الصفحات الأولى والرئيسية، حيث الحروب والصراعات والحوادث التى ينجم عنها قتلى ومصابون ما زالت تفرض نفسها رغم كل شىء.حرب روسيا فى أوكرانيا تخبرنا، بصفة شبه يومية، أن تكتيكاً جديداً أو فريداً من نوعه يتم استخدامه من قبَل الطرفين. والحقيقة أن كلا الطرفين، روسيا من جهة وأوكرانيا والدول والكيانات الداعمة لها من جهة أخرى، يتباريان لإدهاشنا. لم نلتقط أنفاسنا بعدُ جرّاء حرب المسيَّرات المشتعلة من قبَل الطرفين، والتى تفرض نفسها بقدر غير مسبوق من الكثافة والتطور التكنولوجى، حتى تباغتنا تكتيكات يقال إنها أوكرانية لتفجير خط الغاز الطبيعى «نورد ستريم»، وقبلها تفجير يقال إنه روسى لسد نوفا كاخوفكا الواقع فى الأجزاء التى تسيطر عليها روسيا فى أوكرانيا، وما تبع ذلك من نزوح الآلاف، ناهيك عن تهديدات بآثار بيئية وصحية عديدة، والحرب مستمرة، والعالم يكتفى بدعم هؤلاء بأسلحة أكثر تطوراً، ومناوشة أولئك بتنديدات فى المؤتمرات وتهديدات فى القمم.وعلى سيرة القمم، أعلنت بريطانيا استضافة أول قمة عالمية للذكاء الاصطناعى. ونحن نقرأ ونتابع يومياً ما وصل إليه الذكاء الاصطناعى من قدرة على تيسير الحياة من جهة، وكذلك تهديد مئات المهن وملايين العاملين فيها بوضع كلمة النهاية أمام فرصهم لأنه ببساطة قادر على الحل محلهم بأقل من عُشر تكلفتهم. من جهة أخرى، تبدو القصص التى طرحتها أفلام الخيال العلمى، والتى كنا نضحك على لامعقوليتها حتى سنوات قليلة مضت، تلوّح بالتحقق على أرض الواقع. تفوق الذكاء الاصطناعى على الذكاء البشرى، تعاظم احتمالات قدرته على الانقلاب علينا والتحكم فينا وليس العكس، قراءته لمشاعرنا ومخاوفنا والتفاعل معها، سواء بمبادلتنا المودة والمحبة، أو ابتزازنا لمعرفته عنا الكثير مما لا يعرفه أقرب الأقربين، والقائمة طويلة. القمة المرتقبة - على لسان رئيس وزراء بريطانيا - تقر بأن الذكاء الاصطناعى لديه إمكانات مذهلة لتغيير حياتنا إلى الأفضل، لكن الأفضل لا يعنى أنه بالضرورة خير مطلق فى كل استخداماته. يقول سوناك: «على مر التاريخ اخترعنا تقنيات ثورية حديثة وقمنا بتسخيرها لصالح خير البشرية، وهذا ما علينا القيام به مجدداً». والمعنى فى بطن الشاعر، والخطر الجديد واضح وقائم. نسيت أن أذكر أن سوناك قال إن القمة «ستجمع دولاً ذات توجهات فكرية متشابهة من أجل وضع استجابة تنظيمية»، مضيفاً: «علينا أن نثق بريادة بلادنا عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعى لأن الوقائع تثبت ذلك».فى تلك الأثناء، نحتفل نحن بنجاحنا فى ضخ مليون عيل إضافى فى ثمانية أشهر وخمسة أيام فقط، ليصح تعدادنا 105 ملايين صباح السبت الماضى. وحيث إننا نضخ «عيل» كل 21 ثانية، وحيث إن اليوم فيه 86٫400 ثانية، فإننا سنكون على الأرجح قد تمكنا من ضخ ما لا يقل عن 4114 «عيل» بعون الله.الغريب أن بيننا من لا يزال متوقعاً أن تقوم الدولة بمهمة توفير الشاى والسكر والزيت والعلاج والتعليم والترفيه لكل الملايين التى يتم ضخها بهذه الكثافة لأسباب غير معروفة. هذا التوقع يتحول غضباً واتهاماً بالتقصير حين يتم وضع حدود أو قيود لعدد المواليد الذين يضافون على بطاقة تموين، أو الأفراد الحاصلين على معاشات استثنائية، أو من يتم دمجهم فى مبادرات اجتماعية اقتصادية للتخفيف عن كواهل الناس.نعيش أزمة اقتصادية طاحنة؟ نعم. الدول عليها مسئوليات وواجبات؟ نعم! المواطن عليه مسئوليات وواجبات؟ نعم! لكن هناك من يعتقد أن المسئولية الكبرى للمواطن هى ضخ العيال، وهنا تنتهى مهمته لتبدأ مهمة الدولة.تصحيح المفاهيم بات ضرورة ملحة جداً. وأتمنى أن يخرج «الحوار الوطنى» بمنهج واضح وعملى يتم تفعيله فيما يختص بضخ العيال، لا سيما أن الطبقة التى كانت متوسطة أضنتها الضرائب وأثقلت كاهلها مهمة تمويل ضخ عيال الطبقات الأقل حظاً. نود أن نتفوق فى الصناعة والزراعة والتجارة والبرمجيات وليس فى ضخ العيال فقط.وبمناسبة التفوق، فقد أزعجنى ولم يفرحنى إطلاق لقب «الدحيحة» على إحدى الطالبات المتفوقات الجميلات فى الشهادة الإعدادية. هو لقب يطلقه الناس على من ينكب على الكتب ساعات طويلة، أو لا يقوم بأية أنشطة فى حياته اليومية سوى المذاكرة. التفوق رائع وعظيم، لكن الإصرار على ترسيخ «الدح» قيمة دراسية و«الدحيح» منظومة النجاح الأكاديمية هو إصرار على استمرار نهج الحفظ والصم وإحراز الدرجات النهائية. أما الجوانب الأخرى الرياضية والفنية والإبداعية وغيرها فستبقى منزوية ما دام الفكر ينصب على الدح.وما شهدته مصرنا الحيبية فى شهر أبريل الماضى من بلوغ عدد السياح مليوناً و35 ألف سائح، والذى يُعد رقماً غير مسبوق فى تاريخنا السياحى، حافز عظيم علينا استثماره والبناء عليه والمحافظة عليه، ولذلك حديث آخر.

المقال / امينة خيرى 
الوطن
التعليقات