«الشغف».. في كتاب من ورق

فى السنوات الماضية تراجع سوق الصناعة الورقية، لاعتبارات عديدة أهمها سعر الورق وصعوبة الحصول عليه، بعد أن بات قطع الأشجار من غابات الأمازون يشكل خطرا كبيرا على التوازن البيئى، فبدأت تتقلص صناعة النشر الورقى، وتحولت الكتب والصحف الالكترونية دعامة أساسية واتجاها قويا فى صناعة النشر. لكن هل فكرنا قليلا كيف سيكون حال الكوكب على المدى البعيد؟. فى ظل اختلال التوازن البيئى، وزيادة التلوث الرقمى، بفضل الصناعة الالكترونية وتغلغلها فى كل مكونات حياتنا، وتأثير الانبعاثات الكربونية نتيجة لتلك الصناعة التى تشكل خطرا كبيرا على البيئة والتغير المناخى. وبالرغم من ذلك فإن زوال الكتب المطبوعة نتيجة الكتب الالكترونية لم يتحقق، ولم يصل إلى غايته، خاصة أن للقراءة الورقية التى تعتمد على الصحف والكتب والمجلات لها جمهورها الذى يفضلها. أن تحمل كتابا وأنت مسافر فى قطار أو تجلس فى حديقة وتقرأ صحيفة أو كتابا تضع خطوطا تحت بعض السطور أو كلمات أعجبتك، وشكلت حالة وجدانية داخلك، فقمت بكتابة ملاحظة لفتت انتباهك، ثم نسيت الأمر بعد أن انتهيت من قراءته، وعندما تعود للكتاب مرة أخرى لسبب أو لآخر وتقلب صفحاته، سيعيد إليك ذكريات اللحظات التى كنت تعيشها والمواقف التى مررت بها، فتجده ما زال يحتفظ بملاحظاتك التى كتبتها، وربما يحمل فى طياتها الكثير من التفاصيل التى قد تدهشك عندما تعيد قراءتها، هذا الأمر لن يتوافر فى القراءة الالكترونية، ولن يحدث وأنت تتصفح موبايلك لمتابعة موضوع أو خبر، ليس هناك ذاكرة تعود إليها مكتوبة بخط يدك على الجهاز الالكترونى، فضلا عن الأضرار المترتبة على استخدام الاجهزة الالكترونية لفترات طويلة، من اجهاد العين وفقدان التركيز وأمور كثيرة يحذر منها الأطباء كالأرق وفقدان القدرة على النوم ليلا، بسبب الاشعة الزرقاء الضارة بالصحة التى تصدرها الأجهزة الالكترونية.

الحديث عن أن المستقبل للقراءة الرقمية أو الالكترونية، بعد أن بدأت تترجم بشكل فعلى فى كل مكونات القراءة والكتابة، أثبت فشله، فالكتب الورقية لايمكن أن تعوضها الصناعة الرقمية، كالمتعة التى تشعرك بأن الكتاب خير صديق، والشغف الذى يطبع فى ذاكرة القارئ تفاصيل دقيقة تكمن بين السطور المرسومة بالكلمات مثل الأدب والفن، والعلوم وغيرها. عالمنا الرقمى الجديد، خال من المشاعر والاحاسيس، مطبوعات وصحف شهيرة، أغلقت أبواب الطباعة الورقية، وتحولت إلى مواقع الكترونية على اعتبار أن المستقبل للعالم الالكترونى والرقمى، إنه اعتقاد خاطئ، النشر الالكترونى لم يثبت أنه أكثر توفيرا وصديقا للبيئة، بحجة تقليص حجم الأشجار المقطوعة التى يصنع منها الورق، لقد أثبتت التجربة فشل هذه النظرية وسطحيتها، حين نعرف أن تصنيع جهاز قارئ الكتب الإلكتروني أنتج 235 كجم من ثاني أكسيد الكربون، بينما أنتج الكتاب الورقي 1.3 كجم فقط من ثاني أكسيد الكربون. ففى عام 2008 أجرت شركةcarbon 4 الاستشارية المتخصصة فى الاستراتيجيات منخفضة الكربون دراسة، أظهرت فيها الأبحاث أن البصمة الكربونية لكتاب واحد مطبوع تبلغ 7.5 كجم من ثاني أكسيد الكربون، بينما تبلغ البصمة الكربونية لقارئ الكتاب الإلكتروني 168 كجم من ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يعني أن إنتاج قارئ الكتب الإلكترونية ينتج عنه انبعاث 22.5 مرة من ثاني أكسيد الكربون أكثر من إنتاج كتاب مطبوع.

هذا فى حد ذاته يعيدنا إلى سيرتنا الأولى، وهو أن البحث عن الكتاب المطبوع لازال موجودا وله جمهوره، الكتب المطبوعة، يمكنك إمساكها وتقليب صفحاتها وتحسس أورقها. الكتب الورقية أسهل للعيون، حيث لا يوجد إجهاد للعين الذى يأتي مع جهاز إلكتروني أو قارئ إلكتروني. يقول لورينز هيلتي، الأستاذ في قسم المعلوماتية بجامعة زيورخ، والذى درس البصمة البيئية للتقنيات الرقمية لأكثر من 20 عامًا، أنه إذا ما أخذنا في الاعتبار المعادن النادرة اللازمة لإنتاج أي جهاز رقمي، سنجد فى النهاية أن الكتب المطبوعة تأثيرها البيئي منخفض للغاية.

وتقول الدراسة التى نشرتها شركة Heldgeog، وهي شركة استشارية هولندية متخصصة فى التحول البيئي للشركات، "لقد قيل لنا إن التحول الرقمي سيساعد على إنقاذ الكوكب، ولكن يؤسفنا القول بأن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، لأن الصناعة الرقمية العالمية تستخدم 10% من الكهرباء في العالم، وتمثل ما يقرب من 4% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، وهو ما يقرب من ضعف انبعاثات قطاع الطيران المدني العالمى!. لكل فعل رد فعل مساو له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه، نظرية علمية ثابتة، فما بالنا لو طبقناها على التوحش الذى أصاب الصناعة الرقمية وبدلا من أن تساعد البشرية على التطور جعلتها أداة مبرمجة تتحكم فى مقدراتها وتقرر مصيرها، والدليل على ذلك الذكاء الاصطناعى "chat GPT" الذى حدز منه العلماء - منهم من ساهم فى اختراعه - من أنه يوما ما سيكون العدو الأول للبشر وسيساهم فى تدميرهم.

المقال / جيهان فوزى 

الوطن

التعليقات