حديث عن الصوم (١).. عندما يكون الشهر كريمًا والدخل شحيحًا
ولأننا قد «وقعنا في الفخ» واستغثنا واستنجدنا ولم نغث ولم نستنجد، ورفعنا الرايات البيض والحمر ولم ننج ولم نؤسر، بل تركونا نواجه غلاء الأسعار وجشع التجار ومرمطة السوق وحدنا دون معين أو نصير!! فإن كل البسطاء والكثير من الميسورين والمنعمين لم يجدوا على ألسنتهم إلا قولتهم المعتادة حسبنا الله ونعم الوكيل بعد الدعاء على من ظلموهم وهذا أضعف الإيمان!! وإذا كانت أيام الشهر تعصف بالناس وتكوى وتؤرق مضاجعهم فما بالكم يا قوم بشهر الزهد والتقشف والعبادة حين يتحول هذا الشهر إلى تجارة وسهرات ومكسرات وإسراف يتخطى قدرات الناس وإمكانياتهم وصبرهم، إلا أن نكرمه ونرحب به شهرًا للعبادة وللصوم فقط، وعلى ذات العين البصيرة واليد القصيرة لبقية شهور العام حتى يأذن لنا بالفرج، ويظنه البعض قريبًا وأراه بعيدًا.
والغريب أن هذا الشهر الكريم يطل علينا بفعل فاعل منذ شهور مضت، وتفرض علينا أجواؤه قبل مجيئه، ويستنفر فينا شراء طلباته قبل وصوله الكريم، حين تفرض علينا المحلات والمولات طقوسه وأغانيه وترحيباته، حتى لتشعر بجو الصيام وبذخ الشراء قبل وصول نسائمه، المكسرات والياميش والحلويات قد أتخمت بها أرفف المحلات عن بذخ واستفزاز قبل الشهر بشهر، حتى لترى الناس وكأنها تهتز وتترنح ولا تفيق وما هم بسكارى حتى ينقضى العيد، وربما يستعجلونه في الرحيل من مشقة الاستضافة والترحاب، وزادنا الأمر صعوبة هذه الشاشات التي تتسابق في عرض المأكولات وصوانى المحمر والمشمر والمشروبات الطازجة في مباراة من جانب واحد لا تقبل المنافسة ولا تقبل الفوز، فلا علمونا كيف نسرف عند اليسر، ولا علمونا كيف نقتصد عند العسر، وتركونا أمام الشاشات نتقلب بين قنوات السفرة ومطبخ الشيف على وزبدة الهانم بين جائع يربط على بطنه ويندب حظه، ومتخم يسن أسنانه ويفسح بطنه للوافد الجديد.
والعلاقة بين شهر الصوم والزهد والعبادة وقيام الليل وبين المكسرات والحلويات وكثرة الطعام أمر يبدو غريبًا وعجيبًا، فما عرف الأوائل هذا النعيم، فكان طيب طعامهم لا يتجاوز التمر والدقيق والشعير والزيت والعسل، واللحوم الداجنة إذا مرضت أو مرض صاحبها، وقد قيل لأعرابى ما طعامكم؟ قال: الهبيد «حب الحنظل» والضباب، والقنافد والحيات وربما والله أكلنا القد «الجلد المسلوخ» وكانت العرب تهزأ من أكل الخضر والفاكهة، فإذا أكلوها مرضوا، ومنهم من كان تصيبه إغماءة من شدة الجوع، ويربطون على بطونهم بالحجارة، بل وتقول الكتب إن منهم من اشتد بهم الجوع أغلقوا عليهم الأبواب حتى يموتوا بعيدًا عن الأنظار، حتى كثرت الغزوات وتدفقت الأرزاق من كل حدب وصوب، فأكلوا وشربوا وشبعوا، وكالوا الذهب والفضة بالأطنان، وزينوا القصور بالقناديل والجوارى الحسان، والضياع بما تبلغه الريح وتصرعه الخيول، ولسنا كذلك، فلا غزو بل عمل شاق، ولا عطايا ومنح بل أجور ومهايا على قدر العمل والمشقة، ولا هبة بل شراء وفصال، ولا تخمة أو امتلاء بل توفير واقتصاد وإمساك، فما أسرفوا إلا بحقوق الغير، وما وفرنا وأمسكنا إلا بضيق ذات اليد، وشح الأيام وخيبة الأمل والرجاء على بلاء الأقدار.
أما عن الناس، فلست بالناصح الأمين، أو الخبير المتين، إلا أننى سوف أسير على نهج الزاهدين وأولياء الله الصالحين، وأعتكف في البيت بعيدا عن موائد الأحباب والرحمن والأصدقاء، فلا أرهقنا ولا أرهقنا، ولا كلفنا ولا كلفنا، وكنا بين ذلك قوامًا، هذه أولا، والثانية: سنودع إلى غير رجعة كافة المطاعم والدليفرى والمحلات الفخمة والأطباق العامرة اللهم إن كانت عزومة لا ترد أو دعوة مجهولة الداعى، واكتفى بما قسم الله لنا وفتح الله به على بيوتنا، أما الثالثة: أعدكم ألا يزيد الفطار عن صنف واحد تتزين به السفرة ونحن حولها، والحلويات مرة واحدة في الأسبوع إلا ما يفىء الله علينا به من الأحباب والأصدقاء، فلن نرد هدية أو معروفا على رأى المثل «النبى قبل الهدية» ونحن لا نردها. والرابعة: للزاهدين قانون خاص ألا يشبعوا ولا يجوعوا، وللصالحين أصول وقواعد للطعام والشراب، ثلث للماء وآخر للطعام والأخير للنفس والهواء، فماذا لو جربنا هذا فربما نعتاد الجوع، والجوع كما يرددون كافر، وليس كما يقول الأغنياء: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، فإن الفقراء أصدق حين يقولون: «بغير الخبز لا يحيا الإنسان» ويقول علماء التغذية: بغير البروتين والفيتامينات وتنوع الأغذية لا صحة جيدة للإنسان، لكن تقزم وفقر دم وأنيميا وضمور في الذكاء والهمة والأخطر الانتماء، وأقول: لو علم أولو الأمر مخاطر الجوع بمعناه العام لبذلوا جهدا وفيرا في توفير الطعام أولا كأولوية أولى، حتى نحافظ على صحة الشعب وقدرته على العمل والكد والتحصيل، فلا بناء في ضعف أو خوف أو جهل أو مرض أو سوء تغذية!! اللهم هون علينا مشقة مانحن فيه، وخفف عنا ما نحمله من مظالم القريب قبل البعيد.. آمين.
«الدولة المدنية هي الحل».
** عن المصري اليوم..