من وحي زيارة مدبولي إلى واشنطن!

أنهى الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية أول هذا الأسبوع، وقد التقى خلالها بمسئولين أمريكيين كثيرين، ابتداءً من مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي، ومروراً بمسئولين كبار في صندوق النقد الدولي وفي البنك الدولي، وانتهاءً بأعضاء بارزين في الكونجرس الأمريكي، وأيضاً رجال أعمال وخبراء اقتصاد!

وفي كل مكان ذهب إليه الدكتور مدبولي، كان هناك قاسم مشترك أعظم في حديثه مع الذين التقى بهم، وكان هذا القاسم المشترك الأعظم هو موضوع سد النهضة، والخلافات التي نشأت مؤخراً بيننا وبين الحكومة الإثيوبية حول ملف السد!

وكان حديث رئيس الوزراء في كل مرة حول الموضوع يتركز في أننا لسنا ضد التنمية في دول حوض النيل بوجه عام، ولا في إثيوبيا بوجه خاص، وأننا لم نكن ضد التنمية في هذه الدول في أي يوم، بل إننا ساعدنا بعضها في إقامة سدود تخدم قضية التنمية لديها، لكننا في المقابل لن نقبل المساس بحصتنا في ماء النهر، لأن مياه النيل بالنسبة للمصريين هي قضية حياة!

وهذه المعاني سبق أن أطلقها الرئيس من فوق أعلى منصة دولية في العالم، عندما حضر الاجتماعات السنوية للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في نيويورك، آخر سبتمبر الماضي، فوقف يخطب على مسمع من مندوبي شتي الدول الأعضاء في المنظمة، ويقول إن مياه النهر الخالد بالنسبة لمصر هي: مسألة حياة، وقضية وجود!

وقد كان شيئاً جيداً أن يطلق الدكتور مدبولي هذه المعاني نفسها، في أثناء كل لقاء له في العاصمة الأمريكية، لعل الجميع يعلم أن القاهرة جادة تماماً فيما تقول، وأن "رسالتها" إلى العالم ثم إلى إثيوبيا مع هذا العالم هي رسالة واحدة لا تتغير ولا تتبدل، وأن على الذين يتلقون الرسالة سواء على مستوى الرئاسة من جانبنا في الأمم المتحدة، أو على مستوى رئاسة الوزارة خلال زيارة مدبولي، أو على مستوى وزارة الري في كل محفل- أن يعوا ذلك تماماً، وأن يفهموا أننا في كل الأحوال نعني ما نقول!

هذه الرسالة إلى الخارج أظن أنها وصلت إلى كل الذين يتعين أن تصل إليهم، وأنها كانت، ولا تزال، تتأكد يوماً بعد يوم!

ولكن.. هناك جانب آخر من الموضوع يتصل بالداخل، وهذا الجانب هو أن نكون على مستوى الحكومة بأجهزتها المختلفة، ثم على مستوى المواطنين واحداً واحداً - على وعي كامل بقيمة كل قطرة من ماء النهر تجري من أسوان إلى الإسكندرية!

وهذا وعي لن يأتي من تلقاء نفسه، ولن يولد به المواطن، ولكنه يظل في حاجة إلى عملية من البناء المتراكم الذي لا يتوقف، ولا ييأس!

والبناء المتراكم على مستوى الحكومة لا يكون إلا في ملف ري المحاصيل المختلفة، ولا يكون إلا بالانتقال من ري الغمر الذي عرفناه من أيام الفراعنة، إلى الري الحديث الذي صار يعرف الري بالرش، والري بالتنقيط.. وربما يكون علينا أن نلاحظ أن مجرد اسم الري بالتنقيط يريدنا أن نفهم أن الهدف هو إعطاء الزرع ما يحتاجه من الماء.. بالنقطة الواحدة.. وليس بما هو أكثر!

وكذلك الري بالرش الذي يمنح المحصول حاجته من الماء عن طريق رشه قطرات من المياه عند جذر كل شجرة.. لا بغمر الجذر، ولا بإغراق الأرض، ولا بترك كميات الماء تتدفق حتى تملأ قطعة المساحة المزروعة من أولها إلى آخرها!.. إن لنا أن نتخيل حجم الفاقد والمهدر في عملية الري التي تتم بهذه الطريقة!

وقد عرف العالم كله نظام الري الحديث من سنين، ولن نبتدع أو نخترع ونحن نأخذه منه ونطبقه على نطاق واسع على أرضنا، بدلاً من هذا النطاق الخجول الموجود في الوقت الحالي!

وأما البناء المتراكم على مستوى الأفراد، فهو قصة أخرى كبيرة.. قصة تزرع الوعي بقيمة قطرات الماء في أعماق كل مواطن، ولا تتوقف عن ممارسة هذه المهمة من خلال المسجد، والكنيسة، والمدرسة، والبيت، والنادي، ومن فوق كل شاشة، وعلى صفحة كل جريدة!

إنه وعي ينقصنا إلى حد بعيد، وأكاد أقول إلى حد كامل، وهو وعي لا يتشكل في يوم، ولا في يومين، ولا في أسبوع، ولا في شهر، ولا حتى في سنة؛ لأنه عملية مستمرة استمرار الحياة نفسها.

 

التعليقات