اعتذار متأخر ٣٠ عاما من ناقد كبير لوحيد حامد " سامحني غلطت في حقك "

عقب نشر هذا المقال في مجلة "تلي سينما" (عدد يوليو 2019) جاءتني هذه الرسالة من الكاتب الكبير وحيد حامد :
أستاذ مجدى
بكل الصدق والاحترام لشخصك .. انا مندهش لحالة الشفافية والصفاء النفسى وانت تراجع نفسك وتعترف بتغيير قناعاتك لان هذا لا يحدث الا مع النبلاء وتحديداً ليس فى هذا الزمان .. إلا انك فعلتها.. ارجو ان تكون قدوة لكل صاحب قلم .. ولا ازيد .. وحيد حامد
المقال الذي تمنيت مصادرته !
• يوم هاجمت الجمل الحوارية المكشوفة في «ملف في الآداب» وتجاهلت جرأته في تناول قضية القهر وحجم ما وصلنا إليه من إضطهاد وإذلال واستخفاف بأقدار الناس ومصائر البشر

لا أظن أن كاتباً تمنى، يوماً، أن يتعرض مقاله للمنع من النشر، بل العكس هو الصحيح؛ إذ يتملكه الشغف دائماً، انتظاراً للحظة التي يرى فيها كلماته مرصوصة في سطور الجريدة أو المجلة، ومهما كبر شأنه، وتعاظمت مكانته فالحنين يقتله إلى اللحظة التي تصدر فيها المطبوعة، وهي تتضمن مقاله؛ الذي يُعيد قراءته أكثر من مرة، وكأنها المرة الأولى التي يُنشر فيها مقالاً في حياته !
مشاعر لا أظنها غريبة عن كل المشتغلين بالصحافة والإبداع، غير أن ماحدث معي، في السنوات القليلة الماضية، وتحديداً عقب مشاهدة فيلم «ملف في الآداب»، للمرة الثانية، غير قناعاتي كثيراً؛ إذ أنها المرة الأولى التي تمنيت فيها لو أن مقالي، الذي كتبته عن الفيلم، منتصف الثمانينيات، تعرض للمصادرة، أو مُنع من النشر، في نشرة نادي سينما القاهرة؛ بعد ما كشفت القراءة الثانية للفيلم أنني ظلمت كثيراً الفيلم، الذي أخرجه عاطف الطيب، وتجنيت أكثر على كاتبه وحيد حامد؛ الذي اتهمته باستثمار قضية الفيلم لإشاعة مناخ الإباحية، والإفراط في استخدام الجمل الحوارية الفاضحة، لأسباب تجارية أكثر منها فنية أو درامية، والتزمت موقفاً أخلاقياً مبالغاً فيه، عندما استعرت، في مقالي، بعض الجمل، التي جاءت على لسان الأبطال، لأبرهن على فُحش ما وصل إليه الحوار، ورخص أخلاق البطلات؛ كالحوار الذي دار بين البطلة مديحة كامل وصديقتها سلوى عثمان أثناء سيرهما في شارع الشواربي حين قالت : "مفيش حاجة تعمل قيمة للراجل اليومين دول إلا شقته .. زمان بقى كانت قيمته في (..) وتُكمل وهي تضحك بخلاعة : "يادي الخيبة كنت ح أغلط "، كما استدعيت، مصدوماً، حديث مديحة كامل (المطلقة) للبنات العذراوات عن فترة الراحة، التي تعدهن بها في شقتها، وقت القيلولة، حال تزوجت ثانية، ولما يرفضن حتى لا يكن عوازل، ويُكدرن عليها خلوتها الشرعية تسخر منهن قائلة : "أصلكوا بنات ولسه ماتعرفوش حاجة، لكني اتجوزت قبل كده، وعارفه أنه شهر واحد الراجل بيكون فيه شادد حيله على الآخر صبح وليل .. ويخلص الشهر من هنا كل سنة وانت طيبة ينام ويشخر ويديكي ظهره .. وعلشان تصحيه يلزمك مجهود جامد قوي (ضحك عال يستدعي الانتباه) !
أتهامات ودفوع
لا أنكر أن غضبي، وقتها، انصب على الجمل الحوارية المكشوفة، التي جاءت على لسان البطلة الرئيسة «مديحة»(مديحة كامل) المطلقة الجريئة، التي تدبر حياتها بالكتابة على الآلة الكاتبة، ونسخ السيناريوهات مقابل أجر، وتنفي أي احتمال للتعاطف معها ورفيقتيها : «رجاء» (سلوى عثمان) الموظفة في شركة إنتاج للأفلام، و«عايدة» (ألفت إمام) الحكيمة التي تعمل في عيادة اخصائي أمراض باطنة، واللائي أجبرن، بسبب ساعات العمل غير المنتظمة، وابتعاد أماكن إقامتهن عن مقر عملهن، إلى تمضية ساعة القيلولة في التسكع وسط العاصمة، ما جر عليهن المشاكل، وجعلهن موضع شبهات !
أعماني غضبي من الحوارات الإباحية، والتي رأيتها لا تمت للأخلاق بصلة، عن التوقف عند القضية الأهم في «ملف في الآداب»، والمتمثلة في القهر، والاضطهاد، وحجم ما وصلنا إليه من استهتار واستخفاف بأقدار الناس ومصائر البشر، حسبما جاء في دفاع المحامي (علي الغندور)، مثلما لم ألتفت إلى نقطة أساسية ارتكز إليها الثنائي حامد / الطيب مفادها أن «القهر يولد القهر»؛ فالضابط «سعيد أبو الهدى» (صلاح السعدني) ينجح، في مقتبل حياته، في الإيقاع بشبكة دعارة تقودها سيدة الأعمال «علية» (تغريد البشبيشي )، ورغم حالة التلبس التي تكون عليها المرأة إلا أنها تتحداه، وتنجح، بفضل جاهها ونفوذها وعلاقاتها الفوقية، في التخلص من التهمة، والإفراج عنها وشبكتها، ما يترك في نفسه جرحاً عميقاً وإحساساً كبيراً بالألم والمرارة؛ خصوصاً بعد ما يُطالبه رئيسه (شفيق الشايب) بتقديم الاعتذار لزعيمة الشبكة لكنه يرفض لإيمانه القاطع بأن «مستقبله لن تتحكم فيه قوادة وداعرة»، وأن «في الإمكان قبول أي نفوذ من قبل أي جهة وأي سلطة في الدنيا إلا نفوذ القوادين والداعرات». لكن الواقعة تُصيبه بعقدة قهر، نصب نفسه من بعدها قاضياً وجلاداً، ينتقم من الأبرياء، ويثأر من المجتمع، ويستغل الملف القديم القذر لمضيف المطعم «سيدالنونو» (وحيد سيف)، للتنصت على مرتادي المطعم الذي يعمل به، في وسط البلد، من موظفين وموظفات وعمال محلات، وعندما يلمح بادرة احتجاج من «النونو» يبادره : «احنا هدفنا المصلحة العامة .. انت مش بتخدمني انت بتخدم المجتمع»، ومن زاوية تصوير ذكية، تُظهر عدسة سعيد شيمي الضابط في وضع المهيمن والمتحكم في الطرف الآخر .
إثارة واستنارة
دلالة أخرى على الظلم، الذي تعرض له فيلم «ملف في الآداب»، في مقالي، أن الفيلم الذي أنتج عام 1985 اتسم بجرأة كبيرة في التعرض لبعض الظواهر الإجتماعية الكاشفة؛ كالمد الديني وسطوته في ما يتعلق باحتلال مداخل العمارات للصلاة، النظر إلى مشروع مترو الأنفاق بوصفه طوق النجاة، الدعم الحكومي المتمثل في الاستمارة، التي تمنح موظفي الدولة الحق في تأمين احتياجاتهم الضرورية، من ملابس عيد ومدارس، من شركة بيع المصنوعات، التي ظهر مبناها بشكل واضح في الكادر، وكأن الفيلم يقدم لها التحية، نهم وجشع مرشدي البوليس، نتيجة الفقر والعوز، إدانة الصحافة الصفراء (مثلها في الفيلم أحمد صيام)، ظهور جيل جديد من الضباط (ناصر سيف) يتبع سياسة أمنية جديدة لا تقوم على القهر والإذلال والتلفيق، معاناة المطلقة في المجتمع، النظرة المتدنية من قبل بعض الفئات للفن والفنانين .
أما المشهد الأكثر قوة وإثارة، واستنارة، وإعلاناً للموقف الليبرالي للفيلم، فهو الذي تضمن حواراً جريئاً، وغير مسبوق، بين الضابط «سعيد» ممثل السلطة، والحاج «رشاد» (فريد شوقي ) رئيس «مديحة»، وأحد المتهمين في القضية؛ حيث يستغل الضابط كونه ملتزماً دينياً ويسأله مستنكراً صمته على وجود «خمرة» في مأدبة الغذاء التي جمعته والمتهمين، فيرد «الحاج» بلسان رجل الدين الوسطي المستنير : «اسمع يامحترم أنا مسلم وبس لا قلت لك أنا داعية إسلامي ولا مُصلح إجتماعي .. ربنا سبحانه وتعالي هو الهادي ثم الخمرة مش مُحرمة قانوناً»، ووسط دهشته وذهوله يُعلق الضابط : «لكن مُحرمة شرعاً يا حاج»، وفي واحد من أبلغ التعليقات الحاسمة والناهية للجدل يبادره الحاج : «انت ضابط ولا واعظ» !
تعليق قد يصدر عن كاتب، مثل وحيد حامد، أو مثقف، مثل عاطف الطيب، لكنك تستعجب صدوره عن رجل ملتزم دينياً،إلا إذا نظرت إلى الخلفية التي قُدم بها كموظف بسيط، متزوج ويعول إبنتين وصبي، متدين بغير تزمت، ومنفتح على من حوله، وقاريء جيد لشخصياتهم ( يصف مديحة بانها زي القطة البلدى ما حدش يسلم من خرابيشها )، وعندما تُحاصره ضغوط الضابط يستسلم خشية تدمير بيته، وسمعته، لكن سرعان ما يكتشف أنه دفع الثمن غالياً فيستفيق في المحكمة، ويُكفر عن ذنبه .
صرخة عاطف الطيب
قضية على جانب كبير من الخطورة والأهمية، ولا تقل حساسية وجرأة عن عشرات القضايا التي قدمها عاطف الطيب في أفلامه، لكنه، في «ملف في الآداب» يتسلل إليك بنعومة، وبغير ضجيج، أو مباشرة وزعيق من أي نوع، فمثلما يقدم صلاح السعدني في أفضل حالاته، يوجز الكثير عبر توظيف موسيقى نشرة أخبار الثانية والنصف ظهراً كتوقيت للحدث الرئيس المتكرر بشكل يومي، يوحي عبر فيلم «انديانا جونز والمعبد الملعون»، الذي يشاهده الأبطال في سينما مترو، بزمن القضية التي يطرحها، ويستكمل رؤيته التي تنضح بالكوميديا السوداء بالتقاط أفيش «الرجل الذي عطس»، ويُشير إلى جهل الضابط، وبطش القوة الأمنية الغاشمة؛ بعد ما يلتقط لوحة عارية بوصفها حرز في القضية . وفي وثيقة نادرة يقدم، مع مدير التصوير سعيد شيمي، رصداً حياً، وواقعياً، لمنطقة وسط البلد فى سنوات الثمانينيات، أغلب الظن أنها ستتحول إلى شهادة، في أيدي الباحثين، على ماكانت عليه المنطقة وما أصبحت عليه، وكعادته ينجح عمار الشريعي في رسم ملامح القهر على ملامح الضحايا بموسيقاه، وتطول مساحة التعاطف مع أبطال الفيلم؛ فالموظف البسيط «كمال دسوقي» (أحمد بدير) أرهقته سبع سنوات من النزاعات القضائية قبل أن يكسب القضية التي آلت إليه بمقتضاها شقة عمه في وسط البلد، والفتاة البسيطة تدفع بعض المال لفراش في مؤسسة خاصة مقابل أن يسمح لها بالنوم في حجرة المدير المكيفة، والشاب «شريف» (شوقي شامخ) عاجز عن تدبير نفقات الزواج فيبيع جسده للعجائز، بينما يرضخ نادل المطعم لابتزاز الضابط، ويقدم له قضية ملفقة يتهم فيها الضحايا الأبرياء، لمجرد أن إحداهن تتعاطى السجائر، وتسكن المقابر، ويخفي عنه شبكة الدعارة التي يُديرها لحسابه !
من هنا جاءت النهاية صادمة، كمعظم أفلام عاطف الطيب ووحيد حامد، عندما وقفت «مديحة» وراء القضبان، تصفع المجتمع، وتُعلن رفضها لحكم البراءة في حقها، ورفيقاتها، وألقت «المونولوج» العاصف، حول براءتها في الأوراق الرسمية، التي لن تحول دون ظلم الناس، وسجن المجتمع لها، ليُصبح فيلم «ملف في الآداب» بمثابة وثيقة سينمائية جديدة تفضح القهر والإضطهاد والإذلال، وتنضم إلى إبداعات وحيد حامد، الذي أدين له بالاعتذار عما اقترفته في حقه من نزق وطيش شباب.

من صفحةأ/مجدى الطيب على فيس بوك

التعليقات