عنصرية «الكومباوند»
النزوح إلى «الكومباوند» ليس بالضرورة منظرة وفشخرة وعنصرية وطبقية، لكنه قد يكون محاولة للنجاة بالنفس من الفوضى والعشوائية. ربما يكون محاولة يائسة لاستنساخ إيقاع حياة يومى لا يفرض الشارع أهواءه عليه، لكن فيها قدرًا من مراعاة الجار بحكم عدم التلاصق وما ينتج عنه من ثقافة وهلع الزحام والتكدس، ويفرض قدرًا من «القانون» يوقّع عليه المُلاك ضمن عقد التمليك، وفيه حدود الوحدة السكنية مذكورة بوضوح، والمساحات الخضراء العامة التى لا يمكن أن تتحول إلى مسجد، لأن مجموعة من السكان ارتأت أن المسجد الواقع على بعد 150 مترًا بعيد، وأن إيمان السكان فى خطر طالما مكبرات الآذان تبعد عنهم أكثر من عشرة أمتار.. أو سوق للباعة الجائلين الذين لو اعترضت على احتلالهم المساحة العامة، فستجد نفسك عدو الغلابة وخصيم المساكين وغريم الساعين إلى الرزق.. أو يقرر أحدهم أن يحوّل شقته إلى مقهى أو سنتر دروس خصوصية أو سوبرماركت «البركة».
الكومباوند هو مصر زمان، حيث السوق فى السوق، والملعب فى النادى، والصلاة فى مسجد الشارع وليس فى مدخل العمارة أو منزَل الجراج أو مطلع المحل. هو وسيلة يلجأ إليها البعض هربًا من فرض الأغلبية العددية أسلوب حياتها على الأقلية، والتى هى ليست بالضرورة مليونيرات، بل فيها من يضع تحويشة العمر فى وحدة سكنية فى كومباوند هادئ ولا يملك فيلا فى الساحل وبيتًا فى قبرص وحسابات عبر البحار والمحيطات.
يدهشنى انتقاد البعض من الأصدقاء لما يسمونه «الحياة المسورة» (أى المحاطة بأسوار) والانفصال عن المجتمع والهروب من الفقراء والارتماء فى أحضان الأغنياء والتخلى عن الوطن وخيانة أمانة المدينة وقائمة الحنجوريات الأخرى التى تصدر عن أشخاص لو أتيحت لأى منهم فرصة الانتقال إلى كومباوند، فسيفعل دون أدنى تفكير. وهو حين يفعل ذلك، لن يكون هاربًا من الوطن ومرتميًا فى أحضان الرذيلة والخطيئة، لكنه يعرف تمامًا أنه يأمل فى أن يحظى بحياة فيها قدر أدنى من التنظيم والقانون والحدود بعيدًا عن حياة «السمك لبن تمر هندى» الآخذة فى التمدد فى كل مكان.
قرأت قبل أيام تحقيقًا أجراه موقع صحفى قديم يعود إلى عصر مبارك عن حياة الكومباوند والعزلة الاجتماعية والهروب السياسى والاحتماء بالثراء.. إلخ، وورد فى التحقيق مقابلة مع أستاذة علوم سياسية انتقلت من شقتها فى حى مزدحم فى الجيزة إلى كومباوند، وبعد مقدمة حنجورية لابد منها قالت فيها إن المسؤولين يهربون إلى الكومباوند لأسباب أمنية لأنهم يخشون على أنفسهم بسبب الفساد الذى يقترفونه، ولأنهم يريدون أن ينفصلوا عن الواقع، ثم سردت مميزات الكومباوند، ومنها أنها وبناتها لا يتعرضن للتحرش، وأنها تجد مكانًا لسيارتها دون خناقات يومية أو دفع إتاوات شهرية، ولا يحتفل محل بالافتتاح بعشرة مبكرات صوت تبث أغانى مهرجانات، ولا يقرر أحدهم أن يحول الرصيف إلى مقهى شعبى.. وللحديث بقية.
المقال / امينة خيرى
المصرى اليوم