عيد الأب.. الثامن عشر
.. ولا تعرف أيها الأب الشقيان المكافح أن عيدك- إن كنت تعرف أن لك عيدًا- ترتيبه الثامن عشر فى مجمل الاحتفالات العالمية بالأعياد العامة أو الخاصة، بعد عيد العفاريت «الهالوين» والجنى والمسنين والطفولة والأرامل والمهاجرين ومصابى الحروب، وإن كنت لا أعرف لهذا سببًا وجيهًا، إلا أنى لا أستبعد فكرة المؤامرة لهذا الإقصاء والاستبعاد والتهميش، فلن تنسى مخلوقات كثيرة ومتنوعة ظلم الرجال لكافة الكائنات الثديية وغيرها على مدار التاريخ، يوم أن كان هذا الرجل العادى طاغيًا ومستكبرًا ومتجبرًا، وقد كنا نحن معشر الآباء ومازلنا نكفر ونعتذر عن أخطاء وخطايا وسقطات الأجداد الأوائل، وندافع عن حقوق كل الكائنات الحية والميتة والزاحفة، ونسينا فى غمرة هذه المرافعات والدفاعات والادعاءات أننا ندافع عن حقوق كل هذه الكائنات ونحن خلف قضبانهم أسرى، ندافع عن الأحرار ونحن مصفدون فى الأغلال، ونهتف للأحرار خلف الأسوار، ويا للعجب ندافع دون مقابل أو أتعاب!!.
ولم أنتبه إلى هذا الظلم الفادح إلا حين جاءنى أحفادى فى زيارتى الأخيرة إلى أمريكا فى عيد «هذا الأب» بهدية وبخطاب رقيق يختصر رحلة جيلين متتابعين بالشكر والثناء، ساعتها فقط شعرت بمدى تقاعس وتخاذل الآباء فى المطالبة بحقوفهم كما المهاجرين والعفاريت والمعتقلين السياسيين والمعارضين على الأقل، ولست مبالغًا أو طموحًا أن نصطف نحن والأمهات فى عيد واحد وبهديتين أو نتقاسم الهدايا، فصبر جميل!!.
أيها الأب كم تعانى دون كلل أو ملل أو شكوى، ولم تقدم يومًا مرسومًا تطالب فيه برفع الظلم، أو التماسًا بالعفو لانقضاء نصف المدة أو حسن السير والسلوك أو بالإفراج الصحى عما أصابك من وهن أو انحناء أو اعوجاج، وتواصل رحلة الكفاح صاعدًا تتماسك يومًا وتترنح أيامًا وتتكتم عن الجميع ما تعانيه وتكابده، بل وتسترها وتغمرها عن الأبناء حتى لا يهتز الجبل الشامخ فى عيونهم، ويكفيك فخرًا أنك تحبسها محتدمة وملتهبة بين ضلوعك وغيرك يبوح بها كل يوم، يصرخ ويجهر بها حتى ينال الرضا ويحصد تعاطف الأبناء وأنت تخفى ما فى نفسك وتستره، أو حتى تعلن عن أفضالك وإحسانك وكرمك فى تربية أولادك كما تفعل كل الأمهات حين تذيع على أولادها فى نشرة الأخبار المحلية على موائد الإفطار والغداء والعشاء فضل الأم فى ترتيب البيت وأنفاسها الشريفة فى الطبخ، وتهز أنت رأسك بالموافقة، وتخفى أن البيت بيتك والأكل والشراب الذى اختلط بأنفاسها الشريفة من كد تعبك «وكأن اللى اشترى كالذى باع!!».
ولأن الأب «قل الغالبية منهم» بطبيعته فى عطائه الدائم والمستمر غير مبالٍ أو مكترث بالاعتراف بصنائعه وإحسانه وإنعامه، أو الإشادة بصبره وعنائه، بل يرى نفسه دائمًا فوق كل هذا «من باب لا شكر على واجب» فلم يرفع يومًا علمًا يهتف تحته، ولم يبحث يومًا عن «التراس» داخل البيت، ولم يكتب يافطة على بابه تمجد عهده وعصره، ولم يتمرد أو يشق عصا الطاعة «الغالبية أيضًا» بل ينصرف إلى رزقه ومعايشه حاملًا ما يحمل من أثقال وأحماله بشق الأنفس، لا يلوم من قصر، ولا يعاتب من خذل، ولا يبكت من لا يحمل أو يرفع عنه بعضًا مما يتجشم حين يمل أو يكل أو تشق عليه وحشة الطريق، واجبه وحده ودينه الذى استدانه وعهده الذى التزم به وميثاقه الذى أقسم عليه لا يشاركه فيه أحد، هكذا يجب أن يكون!! والغريب العجيب أن الأبناء «غالبيتهم» غافلون عن مساندته، متغافلون عن نجدته، متشاغلون عن نصرته وإعانته، فاعلموا أيها الأبناء أن الأب إذا زاد عجزه كثر عطاؤه، وإذا ضاقت عليه أفرط فى فضله، وكلما جدب معينه وجف تعاظم إحسانه، وكلما زادت انفراجة شفتيه فاعلم أن الراسخ الصلب الأشم قد خارت قواه ووهنت عظامه وتلامست أكتافه.
والأب لا يشعر بمرارة الهزيمة إلا بالتهاون والإغفال، ولا يحس بثقل الأيام ومرارة الصبر إلا إذا رأى التعامى فى عيون من كان يومًا يتقدمهم، ولا ينكسر إلا إذا رأى النسيان والتساهل عند مجيئه وطلته وهلته قد بات واضحًا أو مستترًا فى غدوه ورواحه، ولا يشعر بالخسارة الكبرى إلا إذا تسرب إليه التجاهل والاستغناء، والخيبة الكبرى حين يدرك أن من كان تحت ظله وكنفه شاقًا وعويصًا وباهظًا أصبح هينًا وسهلًا وهشًا حينما كبروا وتغطرسوا، وأن فرحة الصغار قد تلاشت فى كبره وكبرهم.
أيها الأب المتفانى دون إعلان أو تسويق، أيها الصامد دون هتاف أو تزمير، أيها الصابر من غير مقابل أو عيد أو تطبيل، أيها القادر على الانتصار والزحف إلى المقدمة واحتلال المراكز الأولى إذا استعنت بما قام به الأوائل من ظلم وجور، وأعدت كل هذه المخلوقات إلى حظيرتك الأولى، سوف تتقدم الصفوف من الثامن عشر إلى الثانى، ويكون عيدنا القادم أقرب إلى عيد الأم وأبعد عن عيد العفاريت والمهابيل. كل عيد وأنتم بخير وفى المقدمة، رغم كيد الكائدين وتآمر المتآمرين والمتآمرات من الأبناء والأمهات.
«الدولة المدنية هى الحل»
** عن المصري اليوم..